الكاتب مأمون فندي
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط ++ في الشرق الأوسط اليوم، لعبة جديدة، ظهرت ملامحها مع القدرات الإلكترونية للتشويش على قناة «الجزيرة» أثناء بثها الحصري لمباريات كأس العالم الأخيرة، وكذلك الفيروس الإلكتروني الذي أصاب كومبيوترات إيران، وقضية الـ«بلاك بيري» وأحقيتها في ملكية السيرفر الأساسي للمعلومات التي تمر عبر إيميلات الشركة الكندية.. ببساطة نحن الآن أمام نوع جديد من الحروب، وهو الحروب ما بعد الإلكترونية، أو ما يمكن تسميته بالسابوتاج (التخريب) الإلكتروني.
الحروب الإلكترونية موجودة منذ زمن، وهناك في الجيوش فرق، وربما أسلحة وقطاعات تعرف بسلاح الحرب الإلكترونية على غرار سلاح الطيران والمدفعية والمشاة، إلى آخر هذه التشكيلات العسكرية المعروفة، ولكن سلاح الحرب الإلكترونية القديمة لا يصلح للعالم الجديد المتمحور تماما حول عالم «السوفت وير» المتقدم جدا، ولكن كل منطقة على مقدار قدراتها. فبينما الحرب بين أميركا وروسيا وصلت إلى تسليح الفضاء إلكترونيا، فإن منطقتنا التي ما زالت تحبو في عالم «الهاي تيك» أو التكنولوجيا العالية، هي منطقة جديدة على هذه اللعبة.
الإنترنت اليوم وعالم «السوفت وير» هو المعادل الموضوعي للبنى التحتية القديمة، كشبكة مياه الشرب مثلا في واحدة من المدن الكبرى، فإذا ما استطاعت جماعة إرهابية مثلا أن تطلق سماً، أو تستخدم الحرب البيولوجية ضد أي مدينة وتسمم المياه لتَوقّف النظام كله عن العمل وأصيبت المدينة بالشلل. الشيء نفسه بالنسبة لعالم الكومبيوتر، إذا ما أطلق فيروس يهدف إلى لخبطة حسابات البنوك مثلا في بلد ما، فإن النظام المصرفي سوف يتوقف أو يصاب بالشلل لساعات وتتعطل مصالح البشر، ويكلف الدولة المقصودة بالهجوم مليارات الدولارات نتيجة هذا النوع من العمليات التخريبية.
وفي نظام المستشفيات، كمثال آخر، كلما زاد اعتماد وحدات العناية المركزة ووحدات رعاية الأطفال والمسنين على عالم الكومبيوتر والسوفت وير، ازدادت احتمالية تأثرها بالسابوتاج (التخريب) الإلكتروني. منطقتنا اليوم تقترب معظم دولها من أن تكون لديها بنية إلكترونية تشبه إلى حد كبير ما يعتمده الغرب، وبذا تصبح هذه الدول أكثر عرضة للهجمات الإلكترونية، أي كلما تقدمت المنطقة إلكترونيا، تصبح تحت تهديد الحروب الإلكترونية الجديدة. ومن هنا قد يكون التخلف الشديد وحده القادر على مواجهة هذا النوع من الحروب وتجاوز الأزمات القادمة من الغرب الإلكتروني.. ولكن كيف هذا؟ دعوني أوضح..
عندما وقعت الأزمة المالية العالمية الأخيرة افتخرت بعض الدول المتخلفة بأنها لم تتأثر بالأزمة وأن شيئا لم يتغير في أحوالها، وهذا صحيح، فناس هذه الدول لم يشعروا بهذه الأزمة ومرت عليهم مرور الكرام، لأن اقتصادها المتهالك ونظامها المصرفي أصلا خارج الزمن وغير مرتبط بالاقتصاد والنظام المالي العالمي، إلى الدرجة التي قد يتأثر بها إذا ما حدث خلل في هذا النظام. مثال آخر، هو ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، حيث استطاعت مشارط فتح المظاريف وتذاكر الطيران، أن تنتصر على تكنولوجيا الطائرات والمطارات، عندما استخدمتها مجموعة من المتخلفين، وسخرت الطائرات عكس الهدف الذي صنعت من أجله.
ولننظر أيضا إلى حرب الولايات المتحدة ضد «القاعدة» المحتمية بالجبال، حيث تخسر أميركا مليون دولار ثمن صاروخ لضرب مجموعة أحجار في جبال أفغانستان، قد تصيب خلفها هدفا وقد لا تصيب. النقطة الأساسية هنا أن المواجهة بين الدول ذات التقدم التكنولوجي، ضد دول بتفوق تكنولوجي آخر، هي مواجهة محسومة لصالح الأكثر تقدما، بينما الحروب الاستنزافية غير المحسومة وغير المنتهية ستكون بين المتخلفين جدا والمتقدمين جدا.. الحروب غير المتكافئة هي سمة المواجهة بين العالم المتخلف جدا، والعالم المتقدم جدا، وربما تكون هي نوعية الحروب التي تسيطر على منطقتنا الآن في أفغانستان والصومال والسودان والعراق إلى آخر هذه المجموعات من الدول المتهالكة.
لكن هذا الوضع لن يدوم طويلا، فمع الهجوم الإلكتروني الأخير على البنية التحتية الإلكترونية للنظام الإيراني من قبل الغرب، نرى نوعا جديدا من المواجهة، ولكن ليست هذه هي القصة بكاملها؛ فبينما المواجهة بين الغرب وإيران، مواجهة عمودية أو مواجهة رأسية بين شرق وغرب، فإننا نجد أن المنطقة على بوادر حرب أفقية بين دولها نفسها، فما وصف بالتخريب الإلكتروني لإرسال قناة «الجزيرة» أثناء بثها مباريات كأس العالم، الذي ادعت صحيفة «الغارديان» البريطانية أنه هجوم قادم من الأردن، وإن صدق الادعاء فنحن إذن أمام حرب أفقية، أي داخل منظومة دول المنطقة نفسها، أو حرب أهلية إلكترونية بين العرب وبعضهم البعض، وبين العرب وجيرانهم من غير العرب مثلا.
وإذا ما أخذنا في عين الاعتبار، التراكمات السياسية الموجودة أصلا بين الدول العربية فإنه من المرجح أن نرى المزيد من التخريب الإلكتروني في هذه الدول، وهناك سببان رئيسيان لتوقع مثل هذا. السبب الأول، إذا ما أخذنا العلاقات الأردنية – القطرية كمثال، وأنا هنا لست بصدد التحيز مع طرف ضد الآخر في هذه القضية، أنا فقط أستخدم ما حدث كمثال لما هو مقبل من الحروب والمواجهات. ما بين قطر والأردن من مماحكات سياسية يستخدم فيها الإعلام كخط أول للمواجهة، هي ربما الاختلافات والتوترات ذاتها الموجودة بين مصر وقطر، أو قطر والمملكة العربية السعودية، أو العراق وجيرانه، هذا النوع من التوتر الإقليمي بين دول المنطقة سوف يكون التوتر الإلكتروني سمة أساسية من سماته، وربما يعزز ذلك موقع إسرائيل الإقليمي، فمركز صناعات «السوفت وير» في العالم اليوم هو حيفا في إسرائيل.
فإذا كانت لدى إسرائيل وسائل الاختراق الإلكتروني، إضافة إلى وسائل الدفاع ضد الاختراق، فلن يكون من المستغرب أن تستعين بعض الدول العربية بالخبرات الإسرائيلية، وبهذا ستكون إسرائيل هي من يرجح كفة بلد عربي على بلد عربي آخر، في مثل هذه المواجهات الإلكترونية. والسبب الثاني هو أن تكون الدول العربية ضحية اختراقات متقدمة من دول أخرى كإسرائيل أو غيرها تستخدم العرب وقودا بعضهم ضد بعض.
اللعبة الجديدة في المنطقة ستطرح أيضا أسئلة مهمة جديدة فيما يخص قضايا السيادة؛ فمثلا في حالة مشاكسة قناة «الجزيرة» القادمة من الأردن، كما ادعت صحيفة «الغارديان» البريطانية، فإن من الوارد أن تكون عربات التشويش من نوع العربات المتحركة، أي عربة إسرائيلية مثلا استخدمت الأراضي الأردنية، ثم عادت إلى موقعها بعد ذلك، إذن سوف تكون هناك سيادات دول في المنطقة منتهكة إلكترونيا، وكما يبدو أن هذه الدول ليست جاهزة بعد لمثل هذا النوع من المواجهات.
أما قضية الـ«بلاك بيري» التي كانت بين دولة الإمارات والشركة الكندية المالكة لـ«بلاك بيري»، فهي أيضا معركة سيادة بامتياز، أي من له الحق في إدارة معلومات تمر عبر أراضيه، وبما أن الشركة الكندية لا تسمح لدولة أخرى بالتحكم في «السيرفر» الخاص بها، فنحن أيضا أمام حالة من حالات انتهاك سيادة دولة من قبل شركة عابرة للحدود.
إذا كانت هذه هي نوعية المواجهات الشديدة (بين أميركا وإيران) أو المتوسطة بين («الجزيرة» القطرية والأردن) إن صدق ادعاء «الغارديان»، أو الناعمة مثل المواجهة بين شركة الـ«بلاك بيري» والإمارات العربية المتحدة، فنحن بكل تأكيد أمام نوع جديد من المواجهات في المنطقة، يكون التخريب الإلكتروني أساسيا فيها. إننا أمام لعبة جديدة في شرق أوسط ليس جديدا.