سعيد لحدو
27 تشرين الأول 2010
++ أن تعيش ثلثي عمرك في وطن تعتقد أنك كنت مواطناً فيه، وتدفع كل ماجنيته من شقاوة عمرك هذا لتشتري بطاقة سفر وحيدة الاتجاه، لبلد تحلم أن تتوطن فيه ولو إلى حين، لهو أمر ليس نادر الحدوث بل حالة عامة في بلدان تفلت حدود الجغرافيا من أيدي أنظمتها في حين تتمترس تلك الأنظمة خلف أسوار قوانين الطوارئ وقمع الحريات والتنكيل بكل من وشوشت له نفسه الاعتزاز بوطنيته والتعبير عن ذلك بحسب رؤيته الخاصة لموجبات المسؤولية الوطنية التي لا تنسجم بالضرورة مع تعابير الأنظمة وتجسيداتها لهذا المفهوم في الواقع العملي. وسوريا أقرب مثال على هذه الحالة. هذا البلد الذي وصفه تقرير منظمة (مراسلون بلا حدود) بـمملكة تلوذ بالصمت المطبق.
لم تكن مفاجأة لأحد قط أن تأتي سورية في قاع قائمة الحريات الصحفية في التقرير السنوي الذي تصدره تلك المنظمة عن واقع الحريات الصحفية في العالم. فهذا أمر يعيشه ويعاني من مرارته يومياً أكثر من عشرين مليون سوري. لكن الأمر الأكثر مرارة وإيلاماً أن تتقدم دولة مثل الصومال بكل مافيها وما عليها على سورية بإحدى عشرة درجة في قائمة الترتيب تلك. ولم نخلف وراءنا إلا أشقاءنا (القدامى-الجدد) كإيران وكوريا الشمالية. ولا بأس أن نضيف إليهما النظام الأريتيري المنشغل بنشاط مفرط بنار (الثورات) في الصومال واليمن.. وربما في أماكن أخرى، مما أقعده عن تلبية المتطلبات الأساسية للحياة اليومية لمواطنيه!!! سورية التي لا تزال إحدى الدول الأكثر انغلاقاً في مجال حرية التعبير وحرية الصحافة، على حد تعبير التقرير، ارتفع فيها عدد وسائل الإعلام بمختلف أشكالها بطريقة الاستنساخ، في السنوات الأخيرة، دون أن يتبع ذلك تعددية بالآراء ووجهات النظر بالطبع. ذلك لأن التعددية وحرية الرأي، ومنذ انقلاب حزب البعث عام 1963، مازالتا في عرف النظام الجريمة التي تستحق أن يُعلق في رقبتها كل اتهام ممكن، يقود صاحبه صاغراً ليقبع في ضيافة أحد سجون النظام الضيقة على كثرتها وكثرة نزلائها،عدداً من السنوات لا تحددها إلا إرادة المريد ورضى المستفيد.
وهذه الاتهامات حاضرة ومعلبة ومتوفرة على الدوام في سوبرماركات محاكم النظام وبصلاحية استعمال لاتنتهي في أمد معلوم. ولا يمكن أن تخضع لأية رقابة من أي نوع كان. أن تظلَّ مسكوناً بالانتماء لبلد كسورية قضيتَ قرابة نصف قرن فيه حيث تضرب جذوره و جذورك في أعماق تاريخ المدنية رغم حجزه منذ عقود مرتبة القاع في تلك القائمة، وأن تضطر بعد كل هذا للعيش كلاجئ في بلد مازال يتربع وعلى الدوام على قمة تلك القائمة مثل هولندا ، لهي مفارقة يصعب على المرء تخيلها. وتثير فوق ذلك الكثير من مشاعر الألم والمرارة في النفس. ذلك لأن المواطن السوري يستحق أفضل من هذا بكثير. هذا المواطن الذي أينما حل، خارج سورية احتفظ بسمعته العطرة وعدم سماحه بالمساومة على قدرته على الإبداع بمجرد أن تتاح له الفرصة لذلك. إن آلاف الوطنيين الشرفاء رهائن القمع في معتقلات النظام، وعشرات آلاف السوريين المنفيين طوعاً أو قسراً،الناجحين في مختلف المجالات هم السفراء الحقيقون لسورية والوجه المشرق لبلد كان يوماً مهداً للحضارة الإنسانية. إنهم التعبير الأصدق عن أصالة هذا الشعب وتمدنه، لا أزلام النظام والمتنفعين من سرايا المنافقين والمداهنين على حساب الحس والكرامة الوطنية.
إن الشعارات التي ثُقبت آذاننا من كثرة ترديدها مثل المقاومة والممانعة والتصدي والكفاح والجهاد والتحرير ….إلخ، من أنظمة ومنظمات وحركات وأحزاب سماوية وأرضية تدور كلها في فلك الصمود السوري المزعوم، وفي كل (ساحات النضال) العربية، لم تكن يوماً وفي الواقع الفعلي إلا لممانعة ومقاومة وصدِّ كل رأي أو موقف حر أراد أن يعبر بصدق وشفافية عن روح المعاناة التي يعانيها المواطن جراء الغياب التام لأبسط وسائل وإمكانات التعبير الحر في بلد يندر أن يوجد بلد مثله تتكرر فيه كلمة الحرية بهذه الصورة من المبالغة المقززة والمفرغة من كل مضمون.
سورية ليست إلا نموذجاً لحال المواطنين في مساحة جغرافية اصطلح على تسميتها زوراً وبهتاناً بالوطن العربي وما هي إلا موطناً للتخلف والقهر والظلم والقمع، مع فوارق نسبية بين منطقة وأخرى أو نظام وآخر، دون أن يغير هذا من جوهر الحقيقة الموجعة إلى درجة التخدير العام لشعوبها بهدف إفقادها كل إحساس بالحياة والحرية والكرامة. وذلك ليتسنى للأنظمة أن تستمر في ممارساتها المعتادة التي تكفل لها احتلال موقعها الدائم في قاع أي تصنيف يصدر إلا إذا كان متعلقاً بالقمع والتسلط والحكم التعسفي والانتخابات الصورية المفبركة.
لكن مهما ازداد القمع والتنكيل من دوائر الأنظمة ومريديها، فسيظل يبرز من بين أبناء الوطن ممن يهولهم أن يؤخذ الوطن كله رهينة بيد زمرة أو فرد حاكم. وسيبقون يرفعون أصواتهم وهم يتصدرون قوائم الشرف، ليرتفع بهم الوطن إلى حيث يستحق. مواطنو القمة أولئك هم الشرف الذي يجب أن نستميت في الدفاع عنه حتى الرمق الأخير، والذي لا يكون الوطن ولامعنى له بدونه. أما أنظمة القاع هذه، فستبقى في القاع الذي ليس لها سواه مستقر. ولن يقيض لها أن تطفو على السطح إلا عندما تتحول إلى فقاعة فارغة لتزول ويمحى كل أثر لها.