ليس لي في كتابة هذه (الحكاية) غير نقلها عن صاحبتها كما روتها إلي، وكما عاشتها وعانت من أسبابها. واليوم وقد نزلت بيننا قادمة من تلك البلاد الباردة بعد أكثر من عقدين من الزمن.. عرفت منها وهي تحدثني بألم ومرارة.. أنها أضاعت اجمل وأبهى وأغلى سنين عمرها في بؤس وشقاء وغربة.. وتقول بلوعة واسى وحسرة ها إني قد رجعت.. خالية الوفاض خاوية اليدين، بلا زوج، بلا أولاد، وبلا.. ولكن.. ليتني بقيت، ليتني لم أرحل!.
قد يمر بنا الحب كمرور غيمة ربيع، أو قد ينغرس في أعماقنا وينصهر في ذاتنا، أو قد لا نعيشه أبداً.
ـ سكون مطبق يلف المدينة وظلام دامس يخيم عليها، وكثيرون في أسرتهم تلفّهم سكرة النوم من تعب النهار، وآخرون مثله مازالوا ساهرين ينتظرون..
دقات الساعة المنتظمة تصل إلى أذنيه هادئة لينة تجدد في نفسه الأمل وتدفع في جسده المتعب الارتياح والسكينة وحب الحياة.. إن (الدنيا) مازالت بخير بعد.. رغم الليل الطويل مازال هناك أناس ينتظرون. هكذا قال في سره.. وأضاف: (قد يطول انتظارهم أو قد يقصر، أو قد لا يكون هناك ما ينتظرونه).
منذ شهور ثلاث بلغها نبأ رحيله بعد اكثر من خمس سنوات على استشهاده هناك حيث تخوم الوطن!!. أدخلت على أثر ذلك إلى أحد المصحات وهي في حالة انهيار. إنها تتذكره الآن يوم أن قال لها وهو واقف فوق صخرة كبيرة تطل على وادٍ سحيق يحتضن بندقية أبيه:
(ما دمت أقف هنا وسلاحي بيدي وبصري يلامس الأفق البعيد، لا خوف على أشتال السّرو المغروسة في تراب هذه الأرض الطيبة الخيّرة). وتتذكر أيضاً وهو يضيف: (.. لكن سأذكر دائماً انك هاجرتِ مع اختفاء الشمس وراء هذه الصخور، وسأذكر في الليالي المعتمة كم أنا بحاجة إليك لتكوني بجانبي كما أنت الآن.. وتحملي إلي الزوادة والذخيرة مع اشتداد هبوب الريح عند الفجر، وعيناي تعكسان نجمة الصبح في بريق عينيك حين انبلاج الضوء).
بوق سيارة عابرة اخترق أحشاء الظلام ومزق هدوء الليل وصمته وأعاده من شروده. كان ما يزال واقفاً خلف النافذة وعيناه جامدتان معلقتان في سواد الليل العميق ينظر إلى بصيص آلاف النجوم وصدى همسها يتردد في أذنيه، ولكن نجمة واحدة كانت تثير اهتمامه دائماً.. نجمة الصبح التي يلمع بريقها في عينيه، تلك التي تشع في شمال الوطن.
دقات الساعة المنتظمة مازالت تصل إلى أذنيه هادئة لينة تذكره بالزمن الذي يمضي وبالوقت الذي يمضي وبعمره الذي يمضي، ويتساءل في سره: (من ذا الذي أوجد لعبة الزمن هذه التي تسير بحركة رتيبة؟..) وتمتد يده إلى شيء ما، ويرفعه محاولاً أن يقذف به الآلة اللعينة ليحطمها وغشاوة الليل في عينيه، فتدقّ الساعة وتجمد يده وتزول الغشاوة عن عينيه ويصحو من شروده وينظر إليها، إلى أرقامها الجامدة الثابتة ويحدّث نفسه:
(لا تدع أرقام الساعة أن تخدعك وتسخر منك ومن ضعفك ومن يأسك) يحاول أن يخفي وجهه بيديه، ليحجب عن وجهها الزجاجي أن تنعكس عليه حيرته وضعفه ويأسه.. فتدقّ الساعة مرة أخرى وتتصلب عيناه عليها، على أرقامها المهزوزة التي راحت تتلاشى وتغيب شيئاً فشيئاً.. إنه لم يعد يراها، غشاوة عينيه أحالت دون رؤيتها.. ولكنها دقّت دقتين.. إنها الثانية بعد منتصف الليل، ويهمس من خلال (نافذته) وقد حجبت الغشاوة في عينيه بريق النجوم ولمعانها: (نينوى.. هل تسمعينني أم أنك غافلة عني بما حولك؟!. إنه موعد لقائنا مع نجمة الصبح.. هل تذكرين؟..)
وكأن الليل كان ينقل صدى همسه في أجوائه السحيقة ليلمس به وجه القمر الصامت.
إنه يتذكر بأسى يوم أن واجهته بقسوة (غير معهودة) وهي تعيد له (المحبس) وتقول بانفعال وعصبية: (لن أكرر مأساة أختي وقد تزوجت من..) ويتذكر هو أيضا.. وهو يقاطعها بغضب بالغ:
(لماذا تعتقدين أن زواجاً كهذا مأساة؟..) ويضيف وهو ممسك بكتفيها يهزها بعنف: أختك تزوجت من الإنسان الذي أحبها وأحبته، وقد أنجبت منه أولاداً وبنات.. كبيرهم دخل المدرسة وتعلم الـ.. (أولف بيث).. وصغيرهم يرضع حليب ثدييها وبريق عينيه السوداوتين ترسمان الابتسامة المشرقة على شفتيها وتدخلان البهجة إلى نفسها والسعادة في حياتها.
وكانت نينوى تقف خلف النافذة، وراء ستارة شفافة.. قلقة مكتئبة تضرب بقبضة يديها بعصبية ظاهرة وغيظ مكبوت قضبان النافذة الحديدية وقد تخللها ضياء فضي بارد، والقمر يبتسم بصمت كما رغيف خبز التنور المقمر وبوهج أحمر.. ويصفع عينين دامعتين. وبكت نينوى بحرقة ولوعة وهي مازالت تتذكر ذراعيه القويتين وشفتيه الدافئتين تطبقان على شفتيها المحمومتين، وأنفاسه الحارة تلفح أعطافها وثنايا جسدها.. وبكت، غير أنها لم تكن تبكي في هذه المرة لأنها تفكر (بالعريس) الذي جاء من تلك البلاد الباردة.. ويطرق باب بيتهم على حين غرة، فيفتحوا له ويرحبوا به.
قالت لها والدتها في تلك الليلة والفرحة تغمر وجهها المكتنز والمطلي بالمساحيق الملونة:
ـ إنها دعواتي لك يا ابنتي أن يكون العريس كما تريدينه، ودعوات الأم مستجابة.. لا تنسي أنه ثري وعنده سيارة.. ابتسامة باهتة تلملم نظراتها التائهة وهي تهمس في سرها بلا مبالاة:
(ليس هذا عريسي الذي أعرفه، لكنه عريس معه سيارة وقادم من بلاد الغربة).
لم تكن تعرف لماذا ستتزوج من (شخص) لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه وجد ذات يوم في سهرة عائلية.. ثم وضع في خنصر يدها اليمنى (خاتم فاخر) فقالوا لها بعد ذلك: مبروك عريسك (ثري) معه سيارة وعنده (إقامة).. وكانت تبتسم لهم بفتور إلا أن عينيها كانتا تلتمعان ببريق ساحر وهي تردد في خاطرها: (لم لا.. عريس ثري.. معه سيارة، ويقيم في السويد..)
وفي تلك الليلة تقترب منها والدتها وهي تضحك وتحتويها بين ذراعيها وتطبع على خديها قبلة وقبلة وتهمس لها قائلة: ـ ألم اقل لك أن الحياة تبدو جميلة ورائعة إن عرفنا كيف نستفيد من فرصها.. إنها لن تعطينا إلا ما نستطيع أن نأخذه منها. وتضيف: لا تبتعدي كثيراً عن عريسك.. انظري إليه كيف يحاصره المدعوين، ولاحظي كم يبدو فرحاً وسعيداً..
وتغيب الابتسامة عن وجه نينوى وهي تتمتم في سرها: (لم لا يكون سعيداً وفرحاً. إنه ثري ومعه سيارة وعنده إقامة،..)
وتهرب بعيونها من نظرات الجميع وهي تتفحص نفسها وثوب السهرة البراق الذي يلف قوامها اللدن ويلتصق بجسدها الفتي.. وكأس الخمرة في يدها تتمخطر بين المدعوين والمدعوات.. وهم يرمقونها بنظرات ونظرات، فتعود ثانية وتقترب من النافذة وتطوق قضبانها الحديدية بكفين ناعمين وعيونها تبحث عنه بين النجوم فيصفعها القمر بصمت على خديها الخجلين ويحتجب خلف غيمه عابرة ويموت الضياء الفضي.. فتسري في جسدها قشعريرة باردة وتجلس على كرسي (يتيم) في عزلة عميقة تتطلع بعينين دامعتين ووجه شاحب إلى المدعوين وتتصوره في وجوههم وفي عينيه نظرات عتاب وشوق وحنين، وعلى شفتيه ابتسامة مرتعشة حائرة وصدى همسه يطغي على كل الأصوات وعلى الصخب الذي يحيط بها، ويعلو الصدى ويضيع في صرخة مبحوحة ندت عنها وسقطت في إغماءة شفافة.. فيخيم الصمت المفاجئ على الجميع.
أصوات هامسة تتساءل: ماذا حدث؟.. ماذا هناك؟. البعض قال: إنها إغماءة الفرح..
والبعض قال: إنها إغماءة الأسى والحسرة والندم.. وأجمع البعض الآخر على أنها لا تحب عريسها هذا، لكنه عريس ثري.. معه سيارة وعنده (إقامة).
الأب يُقبل مهرولاً متعثراً بخطواته، تتبعه الأم مولولة.. والأخوة والأخوات مستغربين ومندهشين. العريس وحده كان صامتاً حائراً والشحوب يغلف وجهه وفي عينيه الكثير من القلق والخوف والريبة. لم يكن ليهتم إن كانت (عروسه) لا تحبه. ولم يسأل إن كان هناك إنسان آخر في حياتها، ولم يكن ليصدق أو يخطر له على بال وهو يحدث نفسه.. إن السيارة التي معه (والثراء) الذي يتقوّل به لن يفعلا فعلهما في ذاتها وفي شبابها وفي جمالها.. أو بالأحرى لم يكن ليعنيه هذا أو ما يفكر به!. ولكنه يريدها له.. يريد أن يمتلكها.. أن يحصل عليها كما حصل على إقامته هناك في تلك البلاد الباردة التي تفتقر إلى الشمس والدفء الحميم.
رغبة جامحة تسيطر عليه وفكرة ما تراوده وتختلج في ذاته، ويقرر أمراً ما بينه وبين نفسه وهو يقترب من غرفتها وملامح بلهاء ترتسم على وجهه، ويدخل ثم يغلق الباب خلفه بهدوء وصمت. وهناك فوق السرير كانت نينوى راقدة في غفوة عميقة وبالقرب منها تقف أمها والدموع في عينيها، ويقترب منها بخطوات مترددة وجلة.. ويجلس بقربها على السرير ورجفة خفيفة ترتعش في جسده.. ويمد يده يمسح قطرات العرق فوق جبينها برفق ويلمس شعرها المفروش على الوسادة كوشاح أسود بحنان، ويحدثها بصوت خافت متهدج:
نينوى.. ألست بخير الآن؟.
وتفتح عينيها على بقايا دموع.. لتجد في عينيه الصمت، ولم تتكلم.. ويستطرد هو وعلى شفتيه ابتسامة ما: هيا يا نينوى انهضي.. المدعوين قلقون عليك، إنهم بانتظارك..
تخيفها كلماته وتفزعها نبرات صوته وتهمس متسائلة: المدعوين..؟!.
يجيبها على عجل:
ـ أجل يا نينوى.. المدعوين، أنسيتِ؟! إنها (ليلة الحنة).. وغداً يوم زواجنا..
وتسأله بحياء رقيق: ـ زواجنا.. نحن؟!.
يقول لها ورجفة تضطرب بين شفتيه: ـ أجل يا نينوى.. زواجنا نحن.. أنا وأنت..
ويسألها مرة أخيرة: ألست راضية ومقتنعة وسعيدة؟
ترتبك.. تتلعثم.. ولا تجيبه، ولكنها تتساءل:
ـ هل حدث لي شيء؟..
يقسم لها ويؤكد أنه لم يحدث أي شيء..
فنهضت من رقدتها وهي تشعر بألم ودوار في رأسها، وبتعب في جسدها وأحست وهي تتحرك أنها ستسقط على الأرض، ولكنه كان قد أمسك بها بقوة. وخرجا من الغرفة ترافقهما الأم وقد ارتسمت على قسمات وجهها تعابير لا معنى لها..
وفي الوقت الذي انصرف فيه الجميع إلى الأحاديث والهمسات وتبادل الأنخاب.. كانت هي بعيدة عنهم تتساءل في خاطرها: (هل كنت أحلم؟. وتهمس في سرها.. ولكن لم يكن ذلك حلماً، لأنني مازلت أراه كما في كل وقت. أراه بقامته الطويلة وهو يغرس أشتال السرو فوق تلك الروابي البعيدة، ومازلت أرى وجهه الأسمر وانظر في سواد عينيه الواسعتين وشعره وشفتيه، ولكن أين هو.. أين؟)..
وراحت تبحث عنه بين الجميع في وجوههم في عيونهم في شفاههم، وشعرت لأول مرة منذ أن عرفته أنها لن تجده (بعد اليوم) بين هذه الوجوه وفي هذه العيون وفوق هذه الشفاه!. وبينما كانت هي غارقة في آلامها وصمتها ودموعها.. كان العريس يهمس لها قائلاً: لا تفكري بأي شيء الآن.. غداً سينتهي كل شيء.. غداً سنكون بعيدين عن الجميع.. سنكون لوحدنا.
وفي حين كانت الضحكات والزغاريد وصوت الموسيقى الصاخبة يتردد صداها في كل مكان من حديقة الدار المطرزة بالورود والرياحين والأضواء الملونة. كانت تهمس لنفسها بألم وصمت وقد تاهت في عذابها الذي بدا واضحاً في عينيها وفي ابتسامتها وفي وجهها الشاحب:
(غداً ستضيع الأحلام خلف ضباب الحقيقة.. غداً يبدأ يوم آخــر.).