هناك شعوب كثيرة في التاريخ ظلمت وهُضمت حقوقها إلا أن الشعب السرياني الكلداني الآشوري ظُلم مرتين، مرة لأنه ذُبح وأُبيد وشُردت بقيته الباقية من موطنها التاريخي، ومرة ثانية لأن التاريخ والعالم اللذان كانا شاهدين حيين على تلك المجازر البربرية لم يعترفا له بتلك التضحية الجسيمة على مذبح الإنسانية فتم التنكر لها وكأنها لم تكن. نسوق هذا الكلام بمناسبة إقرار البرلمان الفرنسي مشروع قانون يصف مذابح الأرمن على أيدي الأتراك عام 1915 بأنها إبادة جماعية. وذلك بعد التصويت الذي أجري عليه في التاسع والعشرين من شهر أيار 1998. وإذا كان الفرنسيون أو بعض الأوربيين قد أدرك أخيراً مدى بشاعة الجريمة التي ارتكبها الأتراك بحق الإنسانية عام 1915، بإبادة شعوب بأكملها، وهي الجريمة التي دارت أحداثها ووقائعها المؤلمة تحت سمع وبصر كثير من سفرائهم ومبشريهم، فإن ما لم يدركوه بعد.. أو ما زالوا يتغافلون عنه، أن نصيب السريان والكلدان الآشوريين من تلك المذابح لا تقل عما أصاب الأرمن منها نسبة إلى تعداد السكان القومي.
وإن كان جبين الإنسانية الفرنسية، وضمير بعض الأوربيين (ولأسباب سياسية وانتخابية خاصة بهم) بات يندى خجلاً وحياءً من جريمة إبادة حوالي مليون ونصف أرمني على أراضي الإمبراطورية العثمانية، وهم يمثلون أكثر من نصف تعداد الأرمن في ذلك الوقت، فإن ثلاثمائة ألف سرياني كلداني آشوري استُبيحت أرواحهم في قراهم ومدنهم التاريخية عام 1915 وحده. ويرتفع الرقم إلى نصف مليون ضحية إذا أضفنا إليه المذابح التي اُرتكبت بحق هذا الشعب منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى الثلاثينيات من هذا القرن، أي على مدى ثمانين عام تقريباً، على أراضي هذه الإمبراطورية.. أو الجمهورية لاحقاً. وهذا الرقم يعادل أيضاً أكثر من نصف تعداد هذا الشعب في تلك الفترة. إضافةً إلى تشريد البقية الباقية منه في أصقاع العالم المختلفة، من روسيا، إلى أمريكا الجنوبية والشمالية، مروراً بأوربا.
ولما كانت الحكومة التركية المتمثلة آنذاك بجماعة الاتحاد والترقي، وعلى رأسهم عصابة (أنور-طلعت-جمال) قد أوجدت الذرائع لنفسها لتهجير وإبادة الشعب الأرمني للتخلص منه نهائياً، بحجة تطلعاته القومية، وعواطفه المؤيدة لروسيا المسيحية في الحرب، فإن تلك الذرائع لم تكن متوفرة حين تقرر تهجير وإبادة السريان والكلدان الآشوريين في مناطق أضنة وديار بكر والرها وطور عبدين، وماردين وجوارها. ولم تكن الدوافع سوى التعصب الديني والقومي الأعمى، إضافةً إلى مشاعر الحقد والهمجية التي طبعت جماعة الاتحاد والترقي فأهدروا دم المسيحيين أياً كانت انتماءاتهم القومية. مشجعين بعض زعماء العشائر الكردية وبتحريض بعض مشايخ الدين الإسلامي على الفتك بالمسيحيين دون أي تمييز. فتساوى السرياني بالأرمني باليوناني في الذبح أمام هجمة المتعطشين لدماء المسيحيين الأبرياء ونسائهم وممتلكاتهم. وإن لم يتساووا أمام التاريخ. وهكذا تم اقتلاع السريان والكلدان الآشوريين من جذورهم في مواطنهم التاريخية بأعالي ما بين النهرين، حيث عاشوا منذ آلاف السنين.
ويثير استيقاظ الضمير الفرنسي اليوم تجاه الأرمن.. تساؤلاً مريباً وهو إذا كانت جريمة ساطعة كالشمس بحق رعايا دولة أرمينيا المستقلة عن الإمبراطورية العثمانية والموقعة مع جملة الدول المنتصرة في الحرب على معاهدة سيفر التي أسفر عنها مؤتمر الصلح في باريس في العاشر من آب عام 1920 والذي انعقد لتصفية نتائج الحرب العالمية الأولى. نقول إذا استغرقت تلك الجريمة البشعة بحق الجنس البشري ثمانية عقود ونيف ليعترف بها البرلمان الفرنسي (وليس الحكومة الفرنسية) ويقر بأنها كانت إبادة للأرمن بيد الأتراك. فكم من الوقت ستستغرق عملية الاعتراف بإبادة السريان والكلدان الآشوريين. وتشريد الباقين منهم إلى خارج حدود الدولة التركية؟.
لا نعتقد بأن الأوربيين غافلون عن هذه الحقيقة. كما لم يكونوا غافلين عنها في يوم من الأيام لا بالنسبة للأرمن ولا لغير الأرمن من المسيحيين من رعايا الإمبراطورية العثمانية الذين كانوا وما زالوا الثمن الرخيص لأطماع وتنافس المصالح الأوربية على حساب شعوب المنطقة وأمنها واستقرارها ووجودها وللتدليل على صحة هذه الحقيقة نورد هذا القول للورد البريطاني جيمس برايس الذي ورد في خطاب له في مجلس اللوردات البريطاني جاء فيه: (لم تكن هذه، يقصد المذابح، نتيجة غضب المسلمين ضد الأرمن المسيحيين، بل كانت كلها متطابقة مع رغبات الدولة. إنها لم تكن المشاعر الدينية العمياء. إنما كانت حصيلة أسباب سياسية كانت الدولة تريد أن تتخلص من الشعوب غير المسلمة، لأنها كانت عقبة في طريق وحدة عناصر الأمة). وبالطبع فالأوربيون أقدر من غيرهم على إدراك كل ذلك ولديهم كل الوثائق والبراهين الدامغة على ما حصل. هذا إن لم نقل أن لبعضهم وبخاصة الألمان والإنكليز مشاركةً ومساهمةً وتحريضاً على كل ذلك وكتاب السفير الأمريكي في استانبول حينذاك، هنري مورغنطاو (قتل أمة) خير شاهد ودليل. وهو المعاصر للأحداث والمطلع على خفايا اللعبة الخبيثة. ومع ذلك فهم أي الأوربيون، والغربيون عموماً، الذين تغنوا بالمبادئ والقيم الإنسانية، وهم الذين صاغوا الاتفاقية الدولية لمنع ومعاقبة جريمة إبادة الأجناس ووقعوا عليها في 9 كانون الأول 1948. وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهم الذين صاغوا ووقعوا على اتفاقية عدم سقوط جرائم الحرب والجرائم المرتكبة بحق الإنسانية بالتقادم في 26/ تشرين الثاني 1968. ناهيك عن جملة الحقوق المتعلقة بالأقليات الأثنية والدينية واللغوية والتي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً في 18 كانون الأول من عام 1992.
إن البرلمان الفرنسي الذي تبنى اليوم قراراً بهذا الشأن، كان من المفترض أن يتبناه منذ سنوات طويلة. وكذلك بالنسبة للبرلمانات الأوربية والغربية الأخرى. ومع ذلك فما زالت الحكومات الغربية المنساقة بمصالحها الاقتصادية تتجاهل هذه المسألة متغافلة عن كل الاتفاقات والمبادئ الإنسانية تلك التي صاغها خبراؤها خير صياغة، لكن بقي أمر تطبيقها يخضع لقائمة طويلة من الاعتبارات، تأتى الجوانب الإنسانية منها في ظل تلك القائمة. وحتى في هذه الحالة فإن الالتفاف إلى إحدى تلك الجرائم بحق الإنسانية يخضع للانتقائية، فيقيم الغربيون عموماً الدنيا ويستنفرون كل قواهم السياسية والعسكرية لمقتل بضع عشرات أو مئات من الأبرياء في البوسنة بينما الملايين سقطوا ضحايا الهمجية والصراع العنصري في رواندا وفي زائير ـ المسماة حديثاً بالكونغو الديمقراطية ـ كما سبق أن حدث للأرمن وللسريان والكلدان الآشوريين. وكثير ممن قاموا بتلك المذابح تبوءوا مناصب رسمية هامة في تلك الدول ولا تجد الحكومات الغربية من وسائل الردع وتبكيت الضمير سوى بعض التنديدات، وأحياناً حتى التنديد يضنون به على شعوب تعاني الويلات، كما في حالة الشعب السرياني الكلداني الآشوري الذي قاسى ويعاني أشد المعاناة والمرارة في حياته ووجوده ومستقبله في وطنه التاريخي ما بين النهرين.
وإن كنا لم نتحدث عن دور الأتراك كسلطة وكجيش وعن الأكراد كأدوات فاعلة في تلك المجازر. فلئن موضوعنا يتركز على نظرة الأوربيين إلى شعوب المنطقة والأحداث التي تجري فيها، بدونهم حيناً وبفعلهم أحياناً كثيرة. ومدى اتفاق وتوافق المبادئ والمواثيق التي طرحوها ويطرحونها مع مواقف الحكومات الأوربية والغربية عموماً وسياساتها النفعية تجاه تلك الأحداث وضحاياها من الشعوب المستضعفة.
وإن كنا لم نتحدث عن دور الأتراك كسلطة وكجيش وعن الأكراد كأدوات فاعلة في تلك المجازر. فلئن موضوعنا يتركز على نظرة الأوربيين إلى شعوب المنطقة والأحداث التي تجري فيها، بدونهم حيناً وبفعلهم أحياناً كثيرة. ومدى اتفاق وتوافق المبادئ والمواثيق التي طرحوها ويطرحونها مع مواقف الحكومات الأوربية والغربية عموماً وسياساتها النفعية تجاه تلك الأحداث وضحاياها من الشعوب المستضعفة.
إن الموقف الجديد الذي تبناه البرلمان الفرنسي تجاه مذابح الأرمن في تركيا يجب أن يكون دافعاً قوياً لكل البرلمانات الأوربية والغربية الأخرى ولحكوماتها لأن تقف مع المبادئ الإنسانية التي تتغنى بها على الدوام أينما وحيثما كان وتعترف بكل إبادة حدثت للجنس البشري لأي شعب كان بعيداً عن المصالح السياسية والاقتصادية وبخاصة تلك الإبادة الجماعية التي تمت في تركيا قبيل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى والتي شملت ليس الأرمن فقط وإنما السريان والكلدان الآشوريين أيضاً الذين قدموا ضحايا بمئات الألوف دون أن يأتي أي ذكر للمذابح التي تعرضوا لها في التاريخ الحديث لتركيا، سواء ما كتبه الأتراك أنفسهم أو الآخرون، إلا فيما ندر. وهم بذلك يصبحون بحق الشعب الذي استشهد مرتين دون أن يرف جفن الإنسانية ولو بهمسة عزاء. وإن وردت أية إشارة لذلك فغالباً ما تأتي تحت اسم مذابح الأرمن!!.
وحتى تلك المذابح الأرمنية، ما زالت الحكومات التركية تتنكر لها ولا تعترف بوجودها أو بمسؤوليتها عن تلك المجازر، مدعيةً بأنها أحداث عادية جرت أثناء الحرب، نافية أي تخطيط مسبق لها رغم الحقائق الدامغة والوثائق المؤكدة، وشهود العيان الذين دونوا شهاداتهم من موقع حيادي تماماً، ومعظمهم شخصيات معروفة أمريكان وأوربيين وحتى أتراك. وليس غريباً أن تحاول الحكومات التركية التنصل من مسؤولية كل ما حصل طالما لم يوجد من يجبرها على ذلك!.
فهل يستيقظ الضمير الإنساني، ويجاهر بجرائم الإبادة تلك بمسمياتها الحقيقية وبمرتكبيها الفعليين..؟
وهل للحقيقة من موقع ولو لهذه المرة، في صدر هذا العالم الواسع الذي ضاق بالحقائق المرة..؟.
فهل يستيقظ الضمير الإنساني، ويجاهر بجرائم الإبادة تلك بمسمياتها الحقيقية وبمرتكبيها الفعليين..؟
وهل للحقيقة من موقع ولو لهذه المرة، في صدر هذا العالم الواسع الذي ضاق بالحقائق المرة..؟.