لا أحد منا يستطيع أن ينكر بأن معرفة الذات لهي من العوامل المبلورة لحالة الوجود، أكان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم، ولا سيما تلك الأمم التي بات يشار إليها اليوم كأقلياتٍ لم تسلم عبر مسيرة عشرات القرون من محاولاتٍ ابتدأت بالتطهير والصهر وطمس الهوية ولم تنتهِ بالتغييب والإهمال.
وتُراني في هذا السياق لا أقصد إلا الشعب الآشوري الذي هو اليوم بأمس الحاجة لأن يعي ذاته وينفض عنه كل غبار التزييف والتضليل ليأخذ مكانه الطبيعي كحجر أساس في البناء الحضاري الإنساني.
ومجلتنا في سعيها الحثيث لتقديم كل ما من شأنه أن يغني ثقافتنا ويركز وعينا لذاتنا الجَمعية، كان لا بد لها من التوقف مطولاً أمام شخصية من أبناء هذا الشعب امتلأت علماً وبحثاً وإرادةً صلبة لتكّون نواةً أكاديميةً علمية تهتم بدراسة ونشر تراثنا القومي الغني. إنه الدكتور عبد المسيح سعدي الذي ابتدأ حياته الدراسية بدراسة اللاهوت حيث حصل على شهادة الدبلوم عام 1976 ثم نال شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة حلب عام 1984 تلاها حصوله على إجازة من كلية التجارة والاقتصاد بجامعة دمشق عام 1989، مغادراً بعدها الوطن إلى الولايات المتحدة الأمريكية في منحة دراسية من بطريركية السريان الأرثوذكس عام 1990 وتحديداً إلى جامعة شيكاغو حيث ابتدأ مسيرته هناك بحصوله على شهادة الماجستير في علم (الكتاب المقدس في التراث السرياني) وكانت هذه الخطوة التي سبقت نيله لشهادة الدكتوراه في صيف عام 1999 من خلال أطروحته حول مخطوط للعلامة موشي بار كيفا.
واليوم يرأس ما يسمى (مركز مار أفرام للدراسات السريانية) وفي لقاء أجرته معه هيئة تحرير مجلة أثرا بادرناه بالسؤال عن هذا المركز لتعريف السادة القراء به فأجاب قائلاً:
كان هناك سابقاً قسم للدراسات السريانية في جامعة شيكاغو عندما كان البروفسور (أرثر فربس) لا يزال على قيد الحياة، والذي كان مسؤولاً عن تجميع المخطوطات السريانية من بلاد المشرق. وبحسب نظريته كان يقول بأن القسم الأكبر من المخطوطات لا يزال بين أيدي أصحابه في موطنه الأصلي بخلاف علماء الغرب الذين يقولون بأن معظم المخطوطات السريانية أصبحت موجودة الآن إما في المتحف البريطاني أو في الفاتيكان. لذلك وعلى مدى ستين عاماً من الزيارات المتواصلة للمنطقة استطاع أن يجمع على حدّ قوله أكثر من ربع مليون صفحة سريانية غير معروفة لكل العالم. وعندما وصلتُ إلى شيكاغو كان قد مرّ على وفاته أكثر من عامين وكان هذا القسم من الدراسات قد توقف عن العمل إلى الأبد. ولكن أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه وعلى مدى ثلاث سنوات كنتُ قد عُينت من قبل إدارة الجامعة كمدرسٍ مساعد لبروفسور في مجال تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية وبالنسبة لي شخصياً كنتُ أطرح تلك العلاقات من خلال المصادر السريانية فقط، وهذا ما أثار اهتمام الجامعة بالموضوع كونهم اعتبروا ذلك علماً جديداً في هذا النوع من الدراسات وهذا ما عزّز اهتمامهم وكثّف مساعدتهم لي ولا سيما بعد حصولي على شهادة الدكتوراه. كل ذلك مكنني من إعادة الروح إلى ذلك القسم. ورغبةً مني في جعل علاقتي بالجامعة علاقة مؤسسة لمؤسسة فقد سُجل القسم باسم (مركز مار أفرام للدراسات السريانية)، أي أن نشاطه بهذه الصورة لم يمضِ عليه فعلياً أكثر من سنتين وللمركز بشكل عام هدف هو إحياء التراث السرياني وزيادة الاهتمام به عن طريق تدريب الطلاب الدارسين على مستوى شهادة الدكتوراه في مجال دراسات هذا التراث. وكل أملي بأن أرى طلاباً من أبناء شعبنا يتقدمون في هذا الحقل من الدراسات ويحصلون على الشهادات العليا ليملؤها بحثاً ودراسة ونشراً. ويمكن أن نتلمس أهمية هذه النقطة لسببين: أولهما هو قلة عدد العلماء الباحثين في هذا الميدان من الدراسات على مستوى العالم حيث لا يتجاوز عددهم المائة. وثانيهما كون جميع هؤلاء العلماء غرباء وأجانب عن بيئة هذا التراث ومفاهيمه الشيء الذي يجعل قدرة الباحث الغربي على تقمص روح اللغة واستقراء البعد التراثي والبيئي لعناصر المخطوطات أقل منها عند باحث من أبناء التراث نفسه وبنفس المستوى الأكاديمي وهذا ما لمسته مثلاً في دراسات عن أبن العبري ومار ميخائيل الكبير من قبل بعض الباحثين الغربيين، حيث لم تصل ترجماتهم للنصوص الأصلية إلى الدرجة المطلوبة من الدقة.
ـ سؤال: وماذا عن قسم الدراسات السريانية في الجامعة اللوثرية بشيكاغو؟
ـ هذا القسم لا يزال فتياً وسيهتم بمواضيع التراث السرياني المتعددة والتي يمكن تقسيمها بحسب الفترة الزمنية أو بحسب الموضوع أو بحسب بعض الشخصيات في التراث. ويحتوي على مواضيع كتابية وأخرى تهتم بالجوانب التاريخية في الأدب السرياني غير مدروسة لحد الآن تبقي الفرصة متاحة أمام كل طالب يحضر لشهادة الدكتوراه بأن يفتح حقلاً جديداً في مجال الدراسات السريانية. وهذا بالضبط ما حدث معي أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه بدراسة مخطوط اكتشف حديثاً للعلامة موشي بار كيفا عندما توصلتُ إلى نتيجة تقول بوجود (معاني دفاعية أو واقع دفاعي) في المخطوط والمقصود بالمعاني الدفاعية هو استثمار كتابة تفاسير للكتاب المقدس بأسلوب يقترب من الرمزية للدفاع عن التعاليم المسيحية والشد من عزائم المسيحيين في مواجهة الهجمات الإعلامية والنفسية الإسلامية ولا سيما في زمن الخليفة المتوكل (القرن التاسع) والمعروف عنه اضطهاده ليس فقط للطوائف المسيحية بل لبعض الفئات الإسلامية كالمعتزلة.
ـ سؤال: إذاً هل يمكن اعتبار تفسير الكتاب المقدس بهذا الأسلوب الرمزي من ذلك العصر كتوثيق لمرحلة تاريخية معينة؟
ـ نعم يمكن الحصول على استنتاجات غنية من تلك الفترة في الجوانب الاجتماعية والدينية وفي شكل وطبيعة العلاقات السريانية الإسلامية من جهة والعلاقات بين الطوائف السريانية مع بعضها، كما كانت تسمى بحسب قول الأرفادي (الملكانية واليعقوبية والنسطورية).
ـ سؤال: هل لكم علاقات تواصل ومتابعة مع البعثات التنقيبية الآثارية في المنطقة للاستفادة من المكتشفات الحديثة في مجال دراساتكم؟
ـ إن ما يهمني في دراستي هو الشيء المكتوب باللغة السريانية، وأنا مهتم ومتابع لكل ما يتم اكتشافه حديثاً في هذا الإطار. أما المكتشفات الأثرية الأخرى فليست من مجال اختصاصي مباشرةً ولكن يمكن الاطلاع عليها والاستفادة منها في إغناء الدراسة .
ـ سؤال: في مركز مار أفرام للدراسات السريانية.. متى نقول عن مخطوط بأنه قد تمت دراسته؟
ـ تبدأ عملية الدراسة بالترجمة الدقيقة للنص، تليها عملية دراسة وتحليل عناصر المخطوط ووضعها في سياقها التاريخي والحضاري الدقيق للوصول إلى مفهوم واضح ومتكامل للنص المدروس. وهنا أريد أن أؤكد بان المخطوط أو النص الأدبي التراثي كلما زادت عدد مرات دراسته وتحليله من جوانب كثيرة كلما كانت الثمار أكثر والفائدة اعم وهذا ما يفتقده تراثنا السرياني إذا ما قورن بالتراث اليوناني.
ـ سؤال: إن تراكم هذا العدد الضخم من المخطوطات السريانية (ربع مليون صفحة غير مدروسة) وخلال فترة زمنية غير قصيرة يعتبر مؤشراً لقلة الاهتمام بهذا التراث، ما سبب هذا الإهمال؟
ـ شعبنا حتى بداية القرن العشرين كان شعباً مقهوراً بكل معنى الكلمة، حيث عاش بانقطاعٍ شبه تام عن تراثه، هذا الاغتراب عن الذات الذي توارثه جيل بعد آخر ألغى لدينا اليوم عمقنا التراثي باستثناء بعض العادات والتقاليد التي صمدت بقوة بالإضافة إلى اللغة التي استطاع قسم من أبناء شعبنا الحفاظ عليها، أما القسم الأكبر فقد اضطر لتقليد لغة الشعوب المهيمنة عليه دفاعاً أو خوفاً على نفسه. لهذا عندما بدأت شعوب العالم تهتم أكثر فأكثر بهويتها القومية وبتراثها كنّا نحن لا نزال غير مدركين لا لعمق ما حدث لنا ولا لأهمية التراث والهوية. وأضيف بأن ما يميز مشكلتنا عن بقية الشعوب الأخرى اليوم هو تضاؤل عددنا بشكل مخيف. كل هذه الأسباب تجعل مسؤوليتنا مضاعفة لإنقاذ هذا التراث العظيم ومحاولة بعث الروح فيه من جديد والذي سيكون انتصاراً ليس لنا فحسب بل للحضارة الإنسانية كلها.
ـ سؤال: من خلال اهتمامكم بهذا الحقل من الدراسات في الغرب.. هل تشعرون بوجود يد خفية هناك تحاول أن تعتم إعلامياً على تراثنا بشكل خاص؟
ـ ليست لدي معلومات دقيقة وواضحة عن وجود مثل هذه اليد الخفية، لكني أقول بوجود يدٍ ظاهرة تتمثل في إهمال شعبنا لتراثه.
ـ سؤال:ما هي الفترة الزمنية التي تغطيها المخطوطات الموجودة لديكم؟
ـ لدينا بعض الوثائق من القرون الأولى للميلاد وهي وثائق آرامية ولا تدخل في صلب اختصاصنا الذي يقتصر على النصوص المكتوبة باللغة السريانية الرهاوية فقط رغم اشتراكها مع الوثائق الآرامية بنفس الثقافة، لكن يُمَيز بينهما لغوياً من حيث اختصاص دراساتنا. والوثائق السريانية الموجودة لدينا تشمل فترة زمنية تمتد من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
ـ سؤال: هل لديكم محاولات لنقل هذه المخطوطات إلى الوطن في إطار علاقات رسمية من خلال إنشاء مركز دراسات مشابه في الوطن؟
ـ طبعاً الوطن هو المكان الأولَى من أي مكان آخر في العالم لاحتضان مثل هذه الوثائق والمراكز، وأنا أتمنى لو يأتي اليوم الذي يستقبل فيه العلماء من كل أنحاء العالم لدراسة تراثنا في وطننا وهي الحال الطبيعية.
وأنا متفائل في القريب العاجل بأن أرى مثل هذا المشروع يتقدم بخطواتٍ عملية على أرض الوطن.
ـ سؤال: هل بإمكانكم أن تشخصوا لنا بعض الجوانب التي تمثل واقع شعبنا في الولايات المتحدة؟
ـ شعبنا هناك يتعرف برباطه الكنسي والقومي والثقافي وهذا الأخير هو في حالة ضعف مستمر كون الأجيال الناشئة هناك لا تعيش هذا الرابط ولا تعي معناه.. وهذا بالأساس ناتج عن قصور كل من المؤسستين الكنسية والقومية في بلورة رابط ثقافي قومي بالمستوى المطلوب. أما من الناحية العددية فيحكى بان شعبنا الآشوري بكل طوائفه يقارب النصف مليون نسمة، ولكن في رأيي هذا رقمٌ مبالغ فيه عملياً. فعلى سبيل المثال نسمع بانه في شيكاغو لوحدها يوجد أكثر من مائة ألف آشوري ولكن لأغراض عملية لا يمكننا أن نحدد أكثر من عشرة آلاف فقط.
ـ سؤال: إحدى التسميات التي تطلق على شعبنا هي (السريان) ما أصل هذه التسمية وما هي العلاقة التي تربطها بالتسميات الأخرى كالآشورية والآرامية..؟
هناك مقالة للكاتب سعد سعدي تحت عنوان (السريان تسمية ودلالة) أستطيع أن أعتمد عليها في حديثي لأن الكاتب استخدم فيها كافة المصادر المختصة بهذه القضية قديماً وحديثاً ليؤكد على تأصّل لفظ السريان بكل تنويعاته اللفظية في اسم آشور. كما اعتمد الكاتب على ترادف لفظي السرياني والآشوري وترادف لفظي آراميين وسريان وآشوريين وعلى دلالة لفظ السرياني في الأدب الآرامي السرياني وفي الكتاب المقدس العبري وفي اللغتين الأرمنية والفارسية وفي الترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم ليصل إلى خلاصة مفادها:
(أن التسميات الثلاث السريانية والآرامية والآشورية هي تسميات متبادلة متعادلة في الدلالة والأصل) *.
ـ سؤال: كيف تنظرون اليوم إلى واقع اللغة السريانية؟ وما هي سبل الحفاظ عليها كلغة شعب، في الوقت الذي تعلمون فيه بأن اللغة كالكائن الحي تتغير وتتجدد مع الزمن؟
ـ صحيح فاللغة كالكائن الحي تتغير وتتجدد مع الزمن ولهذا يقول المختصون اليوم بأنك عندما تعمل من أجل أية لغة فليس عليك أن تخطط إلا من أجل جيل واحد فقط أي من عشرين إلى ثلاثين سنة. أما الجيل الذي يليه سوف تكون له مشاكله اللغوية الجديدة. وبالنسبة لنا فنحن نواجه اليوم مشكلة لغوية كبيرة متمثلة في عدم قدرتنا على التفاهم باللغة السريانية الفصحى وهي السريانية الرهاوية وهذا ما يضطر معظم الكتب والمجلات والصحف اليوم أن تستخدم لغات أخرى مع الصفحات المكتوبة بالسريانية الرهاوية ليتمكن شعبنا من فهمها كالعربية والسويدية والتركية والألمانية والإنكليزية وغيرها.. إذاً اللغة السريانية التي نستخدمها في الكتابة صوتها قد مات تقريباً اليوم ولم تعد قادرة على تحقيق التفاهم، أما إذا نظرنا إلى اللغة المحكية فهي لا تزال حية لم تمت، والشيء الحي له قيمته التاريخية والقومية والتراثية، ونحن عندما لا نهتم بتطوير وكتابة هذه اللغة المحكية من قبل أشخاص كفوئين ومختصين فإننا نكون مساهمين في القضاء على ما تبقى منها بين أيدينا. طبعاً أقصد باللغة المحكية اللهجتين الشرقية (السورايا) والغربية (الطورويو). وبالنسبة للسوادايا فهي في وضعٍ أفضل كونها دخلت مجال الكتابة والضبط منذ أكثر من مائة عام وصدر بها كتب كثيرة.. أما الطورويو فرغم محاولات بعض المستشرقين لتحفيز الناطقين بها لاستخدامها في الكتابة منذ منتصف القرن التاسع عشر**
إلا أنها عانت بعد ذلك من معوقات كثيرة جعلتها أضعف وأقل تماسكاً أمام لغات الشعوب المحيطة بها مما اضطرها لاستقبال ألفاظ دخيلة عليها صعّب حتى عملية التفاهم بين الناطقين بها من سكان دول مختلفة أحياناً.
لذلك فإن مسؤوليتنا اليوم مضاعفة لإحياء لغتنا المحكية من خلال كتابتها وضبطها على يد أناس مختصين مستفيدين من تراثنا المكتوب باللغة السريانية الرهاوية، وبالتالي يمكن لأدبائنا ومجلاتنا وصحافتنا أن تعتمدها في الكتابة إلى جانب اللغة الفصحى مما سيجعل القارئ قادر على فهم النص المكتوب باللغة المحكية ومن ثم يستطيع مقارنته مع النص المكتوب باللغة الفصحى نفسه، الأمر الذي يسهّل عملية تعلُّم اللغة الفصحى أيضا وعندها يمكن الاستغناء عن اللغات الأجنبية.
ـ سؤال: هناك طموح لدى الكثيرين من المهتمين بثقافة وتراث شعبنا لإقامة نوع من رابطة أو ما شابه تجمع المثقفين الآشوريين الأكاديميين في العالم.. هل طرح عليكم مثل هذا المشروع من قبل، وما هو تصوركم للفائدة المرجوة منه؟
ـ سمعت عن هذا المشروع منذ زمن ولكن لم تحصل أية خطوة عملية في هذا الاتجاه، وأنا أتمنى ذلك بحيث تنشأ لدينا جمعيات تضم أصحاب الاختصاصات المتقاربة من أبناء شعبنا، لتتمكن مستقبلاً من تطوير علاقات مع أصحاب الاختصاص من شعوب المنطقة بالذات مثلاً علاقات على مستوى آشوري عربي أو على مستوى مسيحي إسلامي. كيف يمكن لهذه العلاقات أن تنمّي حالة من التفاهم العلمي الهادئ بين الشعوب والبحث عن القواسم المشتركة بينها من أجل خدمة الحضارة والوطن.
ـ سؤال: كلمة أخيرة توجهها لقراء مجلة أثرا كونها مجلة تهتم بتراث وحضارة هذا الشعب؟
ـ كل أدب حتى يستمر من المفروض أن يكون أدباً مدروساً وبعيداً عن العاطفة ومتماشياً مع الأسس العلمية آخذاً بعين الاعتبار مصالح الشعب بكل توجهاته دون أن يغلِّب مصلحة جهة على أخرى، لذلك أقول بان أدبنا وصحافتنا يجب أن تستوعب مفهوم التعددية الفكرية وتتقبل الرأي الآخر، فالمرونة في الفكر هي من أهم أسس الثقافة السريانية ولا سيما في القرون الخمسة الأولى للميلاد. عندما كان السريان قد أسسوا أنفسهم حول تجمعات طائفية مختلفة فيما بينها ولكن الطبيعة التجارية لهذا الشعب جعلته مرناً في تعامله لكي لا يخسر الأطراف الأخرى رغم الاختلاف الشديد معها.
ونحن اليوم علينا أن نمارس تلك العقلية المنفتحة بكل حرية وأن نعمق نقاط التوحد والالتقاء داخل المجتمع الآشوري ونعي حقيقة أن حالة الاختلاف في الآراء هي حالة طبيعية ومستمرة وصحية ويجب أن نتعلم كيفية الاستفادة منها من خلال إطلاق العنان لأدبنا بان يستوعب كل التنويعات الفكرية ليزداد غنىً وتطوراً وقدرةً على أداء دوره الحقيقي.
وتُراني في هذا السياق لا أقصد إلا الشعب الآشوري الذي هو اليوم بأمس الحاجة لأن يعي ذاته وينفض عنه كل غبار التزييف والتضليل ليأخذ مكانه الطبيعي كحجر أساس في البناء الحضاري الإنساني.
ومجلتنا في سعيها الحثيث لتقديم كل ما من شأنه أن يغني ثقافتنا ويركز وعينا لذاتنا الجَمعية، كان لا بد لها من التوقف مطولاً أمام شخصية من أبناء هذا الشعب امتلأت علماً وبحثاً وإرادةً صلبة لتكّون نواةً أكاديميةً علمية تهتم بدراسة ونشر تراثنا القومي الغني. إنه الدكتور عبد المسيح سعدي الذي ابتدأ حياته الدراسية بدراسة اللاهوت حيث حصل على شهادة الدبلوم عام 1976 ثم نال شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة حلب عام 1984 تلاها حصوله على إجازة من كلية التجارة والاقتصاد بجامعة دمشق عام 1989، مغادراً بعدها الوطن إلى الولايات المتحدة الأمريكية في منحة دراسية من بطريركية السريان الأرثوذكس عام 1990 وتحديداً إلى جامعة شيكاغو حيث ابتدأ مسيرته هناك بحصوله على شهادة الماجستير في علم (الكتاب المقدس في التراث السرياني) وكانت هذه الخطوة التي سبقت نيله لشهادة الدكتوراه في صيف عام 1999 من خلال أطروحته حول مخطوط للعلامة موشي بار كيفا.
واليوم يرأس ما يسمى (مركز مار أفرام للدراسات السريانية) وفي لقاء أجرته معه هيئة تحرير مجلة أثرا بادرناه بالسؤال عن هذا المركز لتعريف السادة القراء به فأجاب قائلاً:
كان هناك سابقاً قسم للدراسات السريانية في جامعة شيكاغو عندما كان البروفسور (أرثر فربس) لا يزال على قيد الحياة، والذي كان مسؤولاً عن تجميع المخطوطات السريانية من بلاد المشرق. وبحسب نظريته كان يقول بأن القسم الأكبر من المخطوطات لا يزال بين أيدي أصحابه في موطنه الأصلي بخلاف علماء الغرب الذين يقولون بأن معظم المخطوطات السريانية أصبحت موجودة الآن إما في المتحف البريطاني أو في الفاتيكان. لذلك وعلى مدى ستين عاماً من الزيارات المتواصلة للمنطقة استطاع أن يجمع على حدّ قوله أكثر من ربع مليون صفحة سريانية غير معروفة لكل العالم. وعندما وصلتُ إلى شيكاغو كان قد مرّ على وفاته أكثر من عامين وكان هذا القسم من الدراسات قد توقف عن العمل إلى الأبد. ولكن أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه وعلى مدى ثلاث سنوات كنتُ قد عُينت من قبل إدارة الجامعة كمدرسٍ مساعد لبروفسور في مجال تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية وبالنسبة لي شخصياً كنتُ أطرح تلك العلاقات من خلال المصادر السريانية فقط، وهذا ما أثار اهتمام الجامعة بالموضوع كونهم اعتبروا ذلك علماً جديداً في هذا النوع من الدراسات وهذا ما عزّز اهتمامهم وكثّف مساعدتهم لي ولا سيما بعد حصولي على شهادة الدكتوراه. كل ذلك مكنني من إعادة الروح إلى ذلك القسم. ورغبةً مني في جعل علاقتي بالجامعة علاقة مؤسسة لمؤسسة فقد سُجل القسم باسم (مركز مار أفرام للدراسات السريانية)، أي أن نشاطه بهذه الصورة لم يمضِ عليه فعلياً أكثر من سنتين وللمركز بشكل عام هدف هو إحياء التراث السرياني وزيادة الاهتمام به عن طريق تدريب الطلاب الدارسين على مستوى شهادة الدكتوراه في مجال دراسات هذا التراث. وكل أملي بأن أرى طلاباً من أبناء شعبنا يتقدمون في هذا الحقل من الدراسات ويحصلون على الشهادات العليا ليملؤها بحثاً ودراسة ونشراً. ويمكن أن نتلمس أهمية هذه النقطة لسببين: أولهما هو قلة عدد العلماء الباحثين في هذا الميدان من الدراسات على مستوى العالم حيث لا يتجاوز عددهم المائة. وثانيهما كون جميع هؤلاء العلماء غرباء وأجانب عن بيئة هذا التراث ومفاهيمه الشيء الذي يجعل قدرة الباحث الغربي على تقمص روح اللغة واستقراء البعد التراثي والبيئي لعناصر المخطوطات أقل منها عند باحث من أبناء التراث نفسه وبنفس المستوى الأكاديمي وهذا ما لمسته مثلاً في دراسات عن أبن العبري ومار ميخائيل الكبير من قبل بعض الباحثين الغربيين، حيث لم تصل ترجماتهم للنصوص الأصلية إلى الدرجة المطلوبة من الدقة.
ـ سؤال: وماذا عن قسم الدراسات السريانية في الجامعة اللوثرية بشيكاغو؟
ـ هذا القسم لا يزال فتياً وسيهتم بمواضيع التراث السرياني المتعددة والتي يمكن تقسيمها بحسب الفترة الزمنية أو بحسب الموضوع أو بحسب بعض الشخصيات في التراث. ويحتوي على مواضيع كتابية وأخرى تهتم بالجوانب التاريخية في الأدب السرياني غير مدروسة لحد الآن تبقي الفرصة متاحة أمام كل طالب يحضر لشهادة الدكتوراه بأن يفتح حقلاً جديداً في مجال الدراسات السريانية. وهذا بالضبط ما حدث معي أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه بدراسة مخطوط اكتشف حديثاً للعلامة موشي بار كيفا عندما توصلتُ إلى نتيجة تقول بوجود (معاني دفاعية أو واقع دفاعي) في المخطوط والمقصود بالمعاني الدفاعية هو استثمار كتابة تفاسير للكتاب المقدس بأسلوب يقترب من الرمزية للدفاع عن التعاليم المسيحية والشد من عزائم المسيحيين في مواجهة الهجمات الإعلامية والنفسية الإسلامية ولا سيما في زمن الخليفة المتوكل (القرن التاسع) والمعروف عنه اضطهاده ليس فقط للطوائف المسيحية بل لبعض الفئات الإسلامية كالمعتزلة.
ـ سؤال: إذاً هل يمكن اعتبار تفسير الكتاب المقدس بهذا الأسلوب الرمزي من ذلك العصر كتوثيق لمرحلة تاريخية معينة؟
ـ نعم يمكن الحصول على استنتاجات غنية من تلك الفترة في الجوانب الاجتماعية والدينية وفي شكل وطبيعة العلاقات السريانية الإسلامية من جهة والعلاقات بين الطوائف السريانية مع بعضها، كما كانت تسمى بحسب قول الأرفادي (الملكانية واليعقوبية والنسطورية).
ـ سؤال: هل لكم علاقات تواصل ومتابعة مع البعثات التنقيبية الآثارية في المنطقة للاستفادة من المكتشفات الحديثة في مجال دراساتكم؟
ـ إن ما يهمني في دراستي هو الشيء المكتوب باللغة السريانية، وأنا مهتم ومتابع لكل ما يتم اكتشافه حديثاً في هذا الإطار. أما المكتشفات الأثرية الأخرى فليست من مجال اختصاصي مباشرةً ولكن يمكن الاطلاع عليها والاستفادة منها في إغناء الدراسة .
ـ سؤال: في مركز مار أفرام للدراسات السريانية.. متى نقول عن مخطوط بأنه قد تمت دراسته؟
ـ تبدأ عملية الدراسة بالترجمة الدقيقة للنص، تليها عملية دراسة وتحليل عناصر المخطوط ووضعها في سياقها التاريخي والحضاري الدقيق للوصول إلى مفهوم واضح ومتكامل للنص المدروس. وهنا أريد أن أؤكد بان المخطوط أو النص الأدبي التراثي كلما زادت عدد مرات دراسته وتحليله من جوانب كثيرة كلما كانت الثمار أكثر والفائدة اعم وهذا ما يفتقده تراثنا السرياني إذا ما قورن بالتراث اليوناني.
ـ سؤال: إن تراكم هذا العدد الضخم من المخطوطات السريانية (ربع مليون صفحة غير مدروسة) وخلال فترة زمنية غير قصيرة يعتبر مؤشراً لقلة الاهتمام بهذا التراث، ما سبب هذا الإهمال؟
ـ شعبنا حتى بداية القرن العشرين كان شعباً مقهوراً بكل معنى الكلمة، حيث عاش بانقطاعٍ شبه تام عن تراثه، هذا الاغتراب عن الذات الذي توارثه جيل بعد آخر ألغى لدينا اليوم عمقنا التراثي باستثناء بعض العادات والتقاليد التي صمدت بقوة بالإضافة إلى اللغة التي استطاع قسم من أبناء شعبنا الحفاظ عليها، أما القسم الأكبر فقد اضطر لتقليد لغة الشعوب المهيمنة عليه دفاعاً أو خوفاً على نفسه. لهذا عندما بدأت شعوب العالم تهتم أكثر فأكثر بهويتها القومية وبتراثها كنّا نحن لا نزال غير مدركين لا لعمق ما حدث لنا ولا لأهمية التراث والهوية. وأضيف بأن ما يميز مشكلتنا عن بقية الشعوب الأخرى اليوم هو تضاؤل عددنا بشكل مخيف. كل هذه الأسباب تجعل مسؤوليتنا مضاعفة لإنقاذ هذا التراث العظيم ومحاولة بعث الروح فيه من جديد والذي سيكون انتصاراً ليس لنا فحسب بل للحضارة الإنسانية كلها.
ـ سؤال: من خلال اهتمامكم بهذا الحقل من الدراسات في الغرب.. هل تشعرون بوجود يد خفية هناك تحاول أن تعتم إعلامياً على تراثنا بشكل خاص؟
ـ ليست لدي معلومات دقيقة وواضحة عن وجود مثل هذه اليد الخفية، لكني أقول بوجود يدٍ ظاهرة تتمثل في إهمال شعبنا لتراثه.
ـ سؤال:ما هي الفترة الزمنية التي تغطيها المخطوطات الموجودة لديكم؟
ـ لدينا بعض الوثائق من القرون الأولى للميلاد وهي وثائق آرامية ولا تدخل في صلب اختصاصنا الذي يقتصر على النصوص المكتوبة باللغة السريانية الرهاوية فقط رغم اشتراكها مع الوثائق الآرامية بنفس الثقافة، لكن يُمَيز بينهما لغوياً من حيث اختصاص دراساتنا. والوثائق السريانية الموجودة لدينا تشمل فترة زمنية تمتد من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي.
ـ سؤال: هل لديكم محاولات لنقل هذه المخطوطات إلى الوطن في إطار علاقات رسمية من خلال إنشاء مركز دراسات مشابه في الوطن؟
ـ طبعاً الوطن هو المكان الأولَى من أي مكان آخر في العالم لاحتضان مثل هذه الوثائق والمراكز، وأنا أتمنى لو يأتي اليوم الذي يستقبل فيه العلماء من كل أنحاء العالم لدراسة تراثنا في وطننا وهي الحال الطبيعية.
وأنا متفائل في القريب العاجل بأن أرى مثل هذا المشروع يتقدم بخطواتٍ عملية على أرض الوطن.
ـ سؤال: هل بإمكانكم أن تشخصوا لنا بعض الجوانب التي تمثل واقع شعبنا في الولايات المتحدة؟
ـ شعبنا هناك يتعرف برباطه الكنسي والقومي والثقافي وهذا الأخير هو في حالة ضعف مستمر كون الأجيال الناشئة هناك لا تعيش هذا الرابط ولا تعي معناه.. وهذا بالأساس ناتج عن قصور كل من المؤسستين الكنسية والقومية في بلورة رابط ثقافي قومي بالمستوى المطلوب. أما من الناحية العددية فيحكى بان شعبنا الآشوري بكل طوائفه يقارب النصف مليون نسمة، ولكن في رأيي هذا رقمٌ مبالغ فيه عملياً. فعلى سبيل المثال نسمع بانه في شيكاغو لوحدها يوجد أكثر من مائة ألف آشوري ولكن لأغراض عملية لا يمكننا أن نحدد أكثر من عشرة آلاف فقط.
ـ سؤال: إحدى التسميات التي تطلق على شعبنا هي (السريان) ما أصل هذه التسمية وما هي العلاقة التي تربطها بالتسميات الأخرى كالآشورية والآرامية..؟
هناك مقالة للكاتب سعد سعدي تحت عنوان (السريان تسمية ودلالة) أستطيع أن أعتمد عليها في حديثي لأن الكاتب استخدم فيها كافة المصادر المختصة بهذه القضية قديماً وحديثاً ليؤكد على تأصّل لفظ السريان بكل تنويعاته اللفظية في اسم آشور. كما اعتمد الكاتب على ترادف لفظي السرياني والآشوري وترادف لفظي آراميين وسريان وآشوريين وعلى دلالة لفظ السرياني في الأدب الآرامي السرياني وفي الكتاب المقدس العبري وفي اللغتين الأرمنية والفارسية وفي الترجمة السبعينية اليونانية للعهد القديم ليصل إلى خلاصة مفادها:
(أن التسميات الثلاث السريانية والآرامية والآشورية هي تسميات متبادلة متعادلة في الدلالة والأصل) *.
ـ سؤال: كيف تنظرون اليوم إلى واقع اللغة السريانية؟ وما هي سبل الحفاظ عليها كلغة شعب، في الوقت الذي تعلمون فيه بأن اللغة كالكائن الحي تتغير وتتجدد مع الزمن؟
ـ صحيح فاللغة كالكائن الحي تتغير وتتجدد مع الزمن ولهذا يقول المختصون اليوم بأنك عندما تعمل من أجل أية لغة فليس عليك أن تخطط إلا من أجل جيل واحد فقط أي من عشرين إلى ثلاثين سنة. أما الجيل الذي يليه سوف تكون له مشاكله اللغوية الجديدة. وبالنسبة لنا فنحن نواجه اليوم مشكلة لغوية كبيرة متمثلة في عدم قدرتنا على التفاهم باللغة السريانية الفصحى وهي السريانية الرهاوية وهذا ما يضطر معظم الكتب والمجلات والصحف اليوم أن تستخدم لغات أخرى مع الصفحات المكتوبة بالسريانية الرهاوية ليتمكن شعبنا من فهمها كالعربية والسويدية والتركية والألمانية والإنكليزية وغيرها.. إذاً اللغة السريانية التي نستخدمها في الكتابة صوتها قد مات تقريباً اليوم ولم تعد قادرة على تحقيق التفاهم، أما إذا نظرنا إلى اللغة المحكية فهي لا تزال حية لم تمت، والشيء الحي له قيمته التاريخية والقومية والتراثية، ونحن عندما لا نهتم بتطوير وكتابة هذه اللغة المحكية من قبل أشخاص كفوئين ومختصين فإننا نكون مساهمين في القضاء على ما تبقى منها بين أيدينا. طبعاً أقصد باللغة المحكية اللهجتين الشرقية (السورايا) والغربية (الطورويو). وبالنسبة للسوادايا فهي في وضعٍ أفضل كونها دخلت مجال الكتابة والضبط منذ أكثر من مائة عام وصدر بها كتب كثيرة.. أما الطورويو فرغم محاولات بعض المستشرقين لتحفيز الناطقين بها لاستخدامها في الكتابة منذ منتصف القرن التاسع عشر**
إلا أنها عانت بعد ذلك من معوقات كثيرة جعلتها أضعف وأقل تماسكاً أمام لغات الشعوب المحيطة بها مما اضطرها لاستقبال ألفاظ دخيلة عليها صعّب حتى عملية التفاهم بين الناطقين بها من سكان دول مختلفة أحياناً.
لذلك فإن مسؤوليتنا اليوم مضاعفة لإحياء لغتنا المحكية من خلال كتابتها وضبطها على يد أناس مختصين مستفيدين من تراثنا المكتوب باللغة السريانية الرهاوية، وبالتالي يمكن لأدبائنا ومجلاتنا وصحافتنا أن تعتمدها في الكتابة إلى جانب اللغة الفصحى مما سيجعل القارئ قادر على فهم النص المكتوب باللغة المحكية ومن ثم يستطيع مقارنته مع النص المكتوب باللغة الفصحى نفسه، الأمر الذي يسهّل عملية تعلُّم اللغة الفصحى أيضا وعندها يمكن الاستغناء عن اللغات الأجنبية.
ـ سؤال: هناك طموح لدى الكثيرين من المهتمين بثقافة وتراث شعبنا لإقامة نوع من رابطة أو ما شابه تجمع المثقفين الآشوريين الأكاديميين في العالم.. هل طرح عليكم مثل هذا المشروع من قبل، وما هو تصوركم للفائدة المرجوة منه؟
ـ سمعت عن هذا المشروع منذ زمن ولكن لم تحصل أية خطوة عملية في هذا الاتجاه، وأنا أتمنى ذلك بحيث تنشأ لدينا جمعيات تضم أصحاب الاختصاصات المتقاربة من أبناء شعبنا، لتتمكن مستقبلاً من تطوير علاقات مع أصحاب الاختصاص من شعوب المنطقة بالذات مثلاً علاقات على مستوى آشوري عربي أو على مستوى مسيحي إسلامي. كيف يمكن لهذه العلاقات أن تنمّي حالة من التفاهم العلمي الهادئ بين الشعوب والبحث عن القواسم المشتركة بينها من أجل خدمة الحضارة والوطن.
ـ سؤال: كلمة أخيرة توجهها لقراء مجلة أثرا كونها مجلة تهتم بتراث وحضارة هذا الشعب؟
ـ كل أدب حتى يستمر من المفروض أن يكون أدباً مدروساً وبعيداً عن العاطفة ومتماشياً مع الأسس العلمية آخذاً بعين الاعتبار مصالح الشعب بكل توجهاته دون أن يغلِّب مصلحة جهة على أخرى، لذلك أقول بان أدبنا وصحافتنا يجب أن تستوعب مفهوم التعددية الفكرية وتتقبل الرأي الآخر، فالمرونة في الفكر هي من أهم أسس الثقافة السريانية ولا سيما في القرون الخمسة الأولى للميلاد. عندما كان السريان قد أسسوا أنفسهم حول تجمعات طائفية مختلفة فيما بينها ولكن الطبيعة التجارية لهذا الشعب جعلته مرناً في تعامله لكي لا يخسر الأطراف الأخرى رغم الاختلاف الشديد معها.
ونحن اليوم علينا أن نمارس تلك العقلية المنفتحة بكل حرية وأن نعمق نقاط التوحد والالتقاء داخل المجتمع الآشوري ونعي حقيقة أن حالة الاختلاف في الآراء هي حالة طبيعية ومستمرة وصحية ويجب أن نتعلم كيفية الاستفادة منها من خلال إطلاق العنان لأدبنا بان يستوعب كل التنويعات الفكرية ليزداد غنىً وتطوراً وقدرةً على أداء دوره الحقيقي.