مما لا شك فيه إن ما ينتجه العقل البشري من العلم والحكمة والمعرفة إنما هو سلسلة متصلة الحلقات منذ نشوء التفكير حتى بلوغه الذروة في سلم التطور الطبيعي. فما لدينا اليوم من علم وأدب إنما هو تراث خلفته العصور الماضية، فقد ألقي في تربة الزمن بذرة صغيرة فنما وترعرع ثم أزهر وأثمر وبلغ درجة النضوج عبر الأجيال المتعاقبة هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن ما تنتجه هذه الأمة من الحكمة والتفكير إنما هو ملك لجميع الأمم والأجيال فتتناقله الأمم ويمتزج في الحياة جيلاً بعد جيل ويكتسب قوة الاستمرار كأي كائن حي فيه عناصر البقاء والصمود.
كان هذا أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد حيث ولدت الحكمة ونمت المعرفة على ضفاف الرافدين، وما هي إلا بكر الحكمة البشرية تناقلتها أجيال سحيقة في القدم عرفت معنى الإنسانية وقدرت قيمة الفضيلة والكمال الإنساني وبذلك تكون قد فتحت لأجيالها الصاعدة طريقاً سوياً لسير في معارج القوة الروحية والتفكير الصحيح.
فمنذ زمن بعيد وأدب الحكمة العالمي يتناقل حكمة سامية تركها رجل يسمى (أحيقار) تراثاً خالداً للبشرية، وقد أخذها هو نفسه من تجاربه في الحياة. فقد جرب الحكمة والمعرفة وغاص في بحار العقل المبدع فتوصل إلى حق الحياة واكتشف حياة الحق فخلد إلى الآن.
إن دراستنا لحكمة أحيقار أمر هام، وما يثير اهتمامنا بها ليس فقط لأنها وجدت بلغتنا الآرامية السريانية ونبتت في بلادنا وعند بني قومنا (وهذا مدعاة للفخر والاعتزاز وهو عامل كافي) ولكن السبب أيضاً هو أنها حاوية على عناصر الحياة والنمو والتكامل. وقد كتب لها الخلود كتراث إنساني سامي رغم قدمها، وهذا يؤيد القول القائل بأن الحكمة لا تشيخ والمعرفة لا تهرم ولا تموت طالما تحوي عناصر البقاء الدائم والحياة الحقة، فحكمة أحيقار هي من هذا الطراز الثمين الذي يجدر الاهتمام به والتعرف عليه.
ـ أصل القصة ولغتها الأصلية:
اختلف العلماء الذين درسوا أحيقار اختلافاً كبيراً فمنهم من قال إنها عبرية ومنهم من قال إنها آرامية نقلت إلى العبرية ثم إلى اليونانية. بينما الاعتقاد الأرجح والأصح هو أنها من أصل بابلي آشوري، ويعزز هذا الرأي دراسة أسماء الأماكن والأعلام والآلهة الواردة في القصة. فهذه الأسماء تشير إلى أن أصلها آشوري. وقد كانت القصة شائعة أولاً باللسان الآشوري ثم نقلت بأسماء يهودية وبروح عبرية إلى اللغة العبرية فاليونانية فسائر الآداب التي يرد فيها ذكر أحيقار وحكمه وأمثاله. فقد نجد الحكمة أثراً بيناً لدى سائر الأمم القديمة منهم المصريين واليونان والعرب.. وغيرهم.
وقد اكتشف أقدم نص لقصة أحيقار على أوراق البردي في جزيرة الفيلة في مصر ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد. كما وصلت إلينا قصة أحيقار وحكمته من الأجيال السريانية بعد اعتناقها المسيحية مكتوبة باللغة السريانية.
ـ من هو أحيقار الحكيم وما هي قصته وأين تكمن حكمته؟
كان أحيقار وزيراً لملك نينوى وآشور (سنحريب بن سركون الثاني) وقد كان أحيقار رجل حكمة ودهاء واقتدار وقد سار ذكره في جميع البلدان. غير أن أحيقار كان حزيناً في قلبه لأنه لم يرزق ولداً ليرثه وليبقي ذكره حياً بالرغم من أنه تزوج عدة نساء. فقد كان يذبح للآلهة ويصلي لها بحرارة لكنه لم ينل مبتغاه. وفي إحدى الليالي أوحي إليه أن يكف عن الذبح والدعاء لأنه لن يرزق ولداً وعليه تبني ابن أخته نادان ويصبح أبنه وأن يقوم بتربيته وتنشئته وتعليمه كل شيء.
فأخذ نادان واعتنى بأمره ولما شب علمه الكتابة والقراءة والأدب والفلسفة ولقنه حكمته وجعله وريثه. وعندما شاخ أحيقار قدم ابن أخته نادان لملك نينوى وآشور ليكون وزيره ومستشاره وليخلد هو إلى الراحة. وقد أحب الملك نادان ورضي عنه. عنده لم ينقطع أحيقار عن تعليم أبنه نادان فكان يبذل له النصح ويطلعه على أسرار النجاح في مهمته فأشبعه من العلم والحكمة.
وسنورد بعض من النصائح التي كان يقدمها له أحيقار والحكم التي علمها إياه. فقد قال:
اسمع يا بني نادان وتفهم تعليمي وأذكر كلامي ذكرك لكلام الله:
ـ يا بني لا تكن عجولاً كشجرة اللوز فإنه تزهر فبل جميع الأشجار وتطعم بعدها جميعاً بل كن كشجرة التوت هادئاً متأنياً فإنها تورق آخر الأشجار وتطعم قبلها جميعاً.
ـ يا بني لا تبح بكل ما تسمعه ولا تشهر كل ما ترى.
ـ يا بني طالما أنت منتعل دس الأشواك ومهد الطريق لأبنائك وأحفادك.
ـ يا بني نقل الحجارة مع رجل حكيم أفضل من شرب الخمرة مع رجل جاهل.
ـ يا بني أسكب الخمرة على قبور الصالحين ولا تشربها مع الآثمة.
ـ يا بني مع الحكيم لن تفسد ومع الفاسد لن تكون حكيماً.
ـ يا بني عاشر الحكيم تصبح مثله ولا تعاشر الوقح المهذار لئلا تحسب نظيره.
ـ يا بني طأطئ عينيك وأخفض صوتك وانظر باحتشام لأنه لو أمكن بناء البيت بالصوت العالي لبنى الحمار بيتين في يوم واحد، ولو أمكن جر المحراث بالقوة لما فارق النير منكب الجمل.
ـ يا بني إذا جابهك مبغضك بالشر فجابهه أنت بالحكمة.
ـ يا بني أخضع أبنك ما دام صغيراً قبل أن يفوقك قوة ويتمرد عليك فتخجل.
ـ يا بني لا تجلب عليك لعنة أبيك وأمك لئلا تحرم الفرح بنعيم بنيك.
ـ يا بني إن القطيع المبدد في الفلوات يكون فريسة سهلة للذئاب.
ـ يا بني أجعل لسانك حلواً وكلامك عذباً فإن ذنب الكلب يطعمه خبزاً وفمه يكسبه ضرباً.
ـ يا بني لا تدع صاحبك يدوس رجلك لئلا يدوس عنقك.
ـ يا بني علم أبنك الجوع والعطش ليدبر بيته بروية.
ـ يا بني صديق قريب خير من أخ بعيد والاسم الجيد خير من الجمال الباهر الزائل.
ـ يا بني لا تطلق الكلمة من فمك حتى تروزها في قلبك لأنه خير للرجل أن يعثر في قلبه من أن يعثر في لسانه.
ـ يا بني إذا سمعت كلمة سوء فادفنها في الأرض عمق سبعة أذرع.
ـ يا بني كل من لا يقضي قضاء عادلاً يغضب الله.
ـ يا بني إذا رأيت رجلاً أسن منك فقف إجلالاً له.
ـ يا بني لا تقاوم من كان في أوج قوته ولا تناحر النهر في طغيانه.
ـ يا بني لا تتدخل في زواج امرأة لأنه إذا شقيت لعنتك وإذا سعدت فلن تذكرك.
ـ يا بني خير لك أن يضربك الحكيم عصياً كثيرة من أن يدهنك الجاهل بطيب معطر.
ـ يا بني الكلب الذي ترك صاحبه وتبعك أرمه بالحجارة.
هذه هي بعض من الحكم والتعاليم التي علمها أحيقار لأبن أخته نادان.
وتريد القصة أن يخيب نادان آمال خاله ومربيه فيضيع الثروة ويتصرف تصرفات طائشة حتى يضطر أحيقار أن يعاقب نادان ويسترد الميراث منه مانحاً إياه إلى الأخ الأصغر. فيحقد نادان على خاله ويضمر له العداء فيلجأ إلى طريقة دنيئة للإيقاع به إذ يدس على أحيقار خطابين موقعين باسمه الأول موجه إلى ملك الفرس، والثاني إلى فرعون مصر. يظهر أحيقار في كلاهما خائن لوطنه وملكه إذ يطلب من الملكين المجيء إلى بلاد آشور لكي يتسلما المملكة بغير حرب ويقع الخطابان في يدي الملك وفق الخطة، ويزور نادان خطاباً ثالثاً موجهاً من قبل الملك إلى أحيقار يطلب إليه أن يجمع العساكر ويحضر في موقع معين (نفس الموقع الذي وعد به كل من فرعون وملك الفرس) فيصغي أحيقار وبذلك تثبت التهمة عليه ويتأكد الملك هكذا من خيانته، فيصدر أمراً بالقبض عليه وقطع رأسه، وعندها سلمه الملك إلى سيافه (نبوسمخ) وتشاء الأقدار أن يكون هذا السياف مدين لأحيقار بحياته، فكان قد حكم عليه بقطع رأسه لكن أحيقار خلصه. وهنا وجد (نبوسمخ) الفرصة مناسبة ليرد الجميل فقام بقطع رأس عبد محكوم عليه بالإعدام وأشاع في آشور ونينوى أن أحيقار الكاتب قد قتل. بينما قام (نبو سمخ) بالتعاون مع زوجته بتخبئة أحيقار في حفرة تحت الأرض عرضها ثلاثة أذرع وعلوها خمسة وقد حفرة تحت عتبة باب بيته وبعدها ذهبوا فأكدوا للملك أن أحيقار الكاتب قد مات.
وعندما سمع فرعون بموت أحيقار سُرّ كثيراً لأنه كان خصماً عنيداً وسنداً قوياً لخصمه ملك نينوى وآشور. فاستغل فرعون الفرصة وبعث برسالة إلى ملك آشور يطلب فيها مطالب عسيرة منها: بناء قصر في الهواء وإرسال حكيم يرد على أسئلته الصعبة وأحاجيه الغامضة، فإن استطاع ملك نينوى وآشور أن يقوم بهذه الأمور على أحسن وجه فإن فرعون سيرسل إليه خراج مصر لمدة ثلاث سنوات. وإن هو عجز عن ذلك فإنه يبعث إلى مصر بخراج بابل لمدة ثلاث سنوات.
فيقوم ملك آشور بجمع العلماء والحكماء والعرافين ويعرض عليهم ذلك. ولكن الجميع يعترفون بعجزهم ونادان أشد عجزاً منهم، فيقيم الملك حزناً شديداً ويأسف على قتل أحيقار الحكيم وتمنى لو أن أحداً استطاع إعادته إليه لأعطاه بثقله ذهباً.
وعندما سمع نبو سمخ ذلك أدرك مدى حزن الملك والموقف الحرج الذي وضع به، عندها اعترف بأنه لم يقتل أحيقار بل أبقاه على قيد الحياة اعترافاً له بالجميل.
وأتى في قصة أحيقار على لسانه: (وفي الحل صعد الملك مركبته وأتى إلى مسرعاً وفتح مخبأي فخرجت وجثوت أمام الملك وشعر رأسي ملقى على كتفي ولحيتي انحدرت إلى صدري وجسمي كله معفر بالتراب وأظافري طويلة، ولما رآني الملك وبغم عظيم قال لي: يا أحيقار إنني لم أجن عليك أنا بل الذي جنى عليك هو أبنك الذي ربيت. حينئذٍ قلت له: الآن يا سيدي وقد رأيت وجهك كأني لم أصب بسوء). ثم مكث أحيقار في بيته مدة حتى عادت إليه قوته وبعدها ذهب إلى مصر وأصطحب معه جيش وبعد أن أعد نسرين كبيرين وغلامين وشريطين طويلين من القصب طول كل منهما ألف ذراع ويربط النسرين بالشريطين ويدرب الغلامين على الركوب على ظهر النسرين وعلمهما أن يقولا: أعطوا البنائين الطين والملاط والقرميد.
وعندما بلغ أحيقار مصر رحب به فرعون فأعطى له بيتاً للمقام ولما امتثل أمام الملك غير أسمه إلى (أبيقام) وطلب منه الملك أن يقابله في الغد. فأمر نبلاءه أن يرتدوا في الغد ثياباً حمراء، وارتدى فرعون خزاً وجلس على العرش وأمر فمثل أحيقار أمامه، وسأله: من أشبه يا (أبيقام) وعظمائي من يشبهون. فأجاب أحيقار وقال: (إنك تشبه الإله بيل ونبلاؤك يشبهون أحباره).
وفي اليوم الثاني ارتدى الملك ثوباً أبيض ونبلاؤه ارتدوا الكتان الأبيض، وطرح عليه نفس السؤال فشبهه أحيقار بالشمس وعظماؤه بأشعتها.
وفي اليوم الثالث ارتدى الملك ثوباً قرمزياً وعظماؤه ارتدوا ثياباً سوداء فشبهه أحيقار بالقمر وعظماؤه بالنجوم.
وفي اليوم الرابع أمر الملك عظماءه فارتدوا ثياباً مزركشة ملونة وأضفى على أبواب البلاط اللون الأحمر والملك ارتدى ثوباً بلون التفاح. فشبهه أحيقار بشهر نيسان وعظماؤه يشبهون أزهاره. عندها قال له فرعون: إنك شبهنني تارة بالإله بيل وعظمائي بأحباره، وشبهتني ثانية بالشمس وعظمائي بأشعتها، وشبهتني ثالثة بالقمر وعظمائي بالنجوم، وفي المرة الرابعة بشهر نيسان وعظمائي بأزهاره. فقل لي الآن يا أبيقام سيدك من يشبه؟ فأجابه أحيقار: حاشاك يا سيدي أن تذكر سيدي سنحاريب وأنت جالس، إن سيدي سنحاريب يشبه الإله إيلو وعظماؤه يشبهون البرق التي تتألف في السحب وكلما شاء يبلور في المطر والندى برداً وإذا أرعد يمنع الشمس عن الشروق وأشعتها عن الظهور، كما يمنع بيل من التجول في الشوارع وعظماؤه من الظهور ويمنع القمر من الإضاءة والنجوم من أن ترى، وإذا أراد يأمر الرياح الشمالية فتهب وتلبد الغيوم وتهطل الأمطار والبرد فيضرب نيسان وتتساقط أزهاره.
عندها اشتد غضب فرعون وشك في أمر أبيقام لما له من حكمة، عندها أجبر أحيقار على الكشف عن اسمه وهويته، فاعترف بأنه أحيقار حامل أختام ملك نينوى وأشور. بعدها طلب فرعون من أحيقار الذهاب إلى منزله وأن يعود غداً ويقول كلمة لم يسمع بها الملك بعد ولم يفعلها ولم تسمع قط في العاصمة. فذهب أحيقار إلى بيته وعاد صباحاً وسلمه رسالة ورد فيها: (إن ملك آشور بحاجة إلى المال وبما أن فرعون استدان منه مرة عندما وقع في ضائقة مالية بمبلغ تسعمائة قنطار من الذهب فإنه يطلب من فرعون أن يتكرم بوفاء الدين). فقال فرعون غاضباً إن هذا أمر لم يفعله ولم يسمع به وبذلك يكون فرعون قد خسر الرهان.
عندها طلب منه فرعون أن يبني له قصراً بين الأرض والسماء ويكون ارتفاعه عن الأرض ألف باع (قدر من اليدين) فأخرج فرخي النسر وربط الحبال بأرجلهما وأركب عليهما الصبيين وأطلقهما وكان الصبيان يصرخان (أعطوا الطين والملاط والقرميد للبنائين فإنهم بطّالون) ولما رأى الملك دهش وقال هل جننت يا أحيقار من يستطيع أن يرفع شيئاً إلى هذين الصبيين. فرد عليه أحيقار: (لو كان سيدي سنحاريب حاضراً لبنى قصرين أثنين في يوم واحد) وهكذا تتتالى هزائم فرعون مصر، ولكنه لم يتوقف عن أسئلته التعجيزية. فأمر أحيقار أن يمضي إلى منزله ويعود إليه في صباح اليوم التالي عندها طلب منه أن يفسر له هذه القضية: إن حصان ملك نينوى يصهل في آشور فتسمعه خيول مصل فتجهض. فاستمهل أحيقار فرعون مصر في الإجابة. وفي صباح اليوم التالي قام أحيقار باصطياد هرة وبدأ بتعذيبها وضربها بالسوط في شوارع المدينة وعندما رأى المصريون ذلك ذهبوا فقالوا للملك بأن أحيقار يستعلي على الشعب المصري ويهزأ بهم (إذ أن الهرة عند قدماء المصريين حيوان مقدس). فاستدعاه الملك وقال له لماذا تهزأ بنا. فأجابه أحيقار قائلاً: عش إلى الأبد يا سيدي الملك إن هذه الهرة قد آذتني كثيراً وأضرّت بي. فقد كان سيدي قد أعطاني ديكاً وكان صوته جميلاً فكلما صاح الديك كنت أعلم أن سيدي يطلبني وكنت أذهب إليه. وفي الليلة الماضية ذهبت هذه الهرة إلى آشور وقطعت رأس ذلك الديك وأتت. فأجاب الملك: يبدو لي يا أحيقار أنك قد هرمت فجننت هناك ثلاثمائة وستون فرسخاً من هنا إلى آشور فكيف تقول إن هذه الهرة ذهبت في ليلة واحدة وقطعت رأس الديك وعادت؟!. فقال أحيقار: إذن كيف على بعد ثلاثمائة وستون فرسخاً سمعت خيولكم صهيل حصان سيدي فأجهضت؟. ولما سمع الملك ذلك اغتم كثيراً وقال لأحيقار: يا أحيقار افتل لي خمسة حبال من رمال النهر. فرد أحيقار: مر يا سيدي أن يخرجوا لي حبلاً من الرمال من خزائنك لكي أعمل مثله. عندها قال فرعون: إن لم تفعل ذلك فلن أعطيك جزية مصر. ففكر أحيقار ثم خرج من بلاط الملك، فثقب في جدار البلاط الشرقي خمسة ثقوب ولما دخلت أشعة الشمس من الثقوب أثار أحيقار الرمل فظهرت أشعة الشمس وكأنه حبال من الثقوب. فقال للملك: مر يا سيدي أن يزيلوا هذه الحبال فافتل لكم عوضها. ولما رأى الملك وعظماؤه ذلك دهشوا عندها ضحك الملك وقال: ليكن اليوم الذي ولد فيه أحيقار يوماً مباركاً أمام آلهة مصر. ودفع له جزية مصر لثلاث سنوات. وبعدها عاد أحيقار إلى سيده الملك سنحاريب وهو محمل بالهدايا والغنائم واستقبل استقبالاً عظيماً وأجلسه الملك في مقدمة أخصائه وقال: له اطلب ما بدا لك يا أحيقار. فرد عليه: ما تريد أن تمنحني إياه أعطه لزميلي نبو سمخ فهو الذي أبقاني حياً وأنا لا أرغب جاهاً ولا مالاً وإنما أريد أن يدفع إلي بابني نادان لكي أعلمه تعليماً جيداً لأنه قد نسي التعليم الأول. فقال الملك: اذهب يا أحيقار واصنع ما شئت بابنك نادان ولن يستطيع أحد أن يخلص جسده منك. فسلمه إياه وأخذه أحيقار إلى بيته موثقاً وبدأ يؤنبه ويحقره ويضربه ويذكره بالحكمة التي علمه إياها وهو صغير، وقد وضع عليه حارساً وطلب منه أن يكتب على لوحة أقواله إلى ابنه نادان فقال له:
ـ يا بني من لا يسمع من أذنيه فإنهم يسمعونه في قذاله.
ـ يا بني لقد أجلستك على كرسي الوقار، وأما أنت فقد طرحتني في كرسي بري، فصرت لي يا بني كالعقرب الذي لسع صخرة فقالت الصخرة أنك لسعت قلباً جامداً ثم لسع إبرة فقيل له إنك لسعت حمى أشد من حمتك.
ـ كنت لي يا بني كمن رشق صخرة إلى السماء فلم تبلغ السماء واقترف إثماً أمام الله.
ـ كنت لي يا بني مثل رجل رأى رفيقه يرتجف من البرد فأخذ قربة ماء بارد وصبها عليه.
ليتك يا بني استطعت القيام مقامي بعد قتلي. فاعلم يا بني إن الخنزير لو طال ذنبه سبعة اذرع لا يقوم مقام الحصان.
ـ يا بني كان الفخ منصوباً في دمنة فجاء عصفور فرآه وقال له ماذا تعمل هنا؟ قال له الفخ إني أصلي إلى الله. قال له العصفور وما ذلك الذي في فمك؟ قال الفخ خبز للضيوف. فدنا العصفور منه وأخذه فأطبق الفخ على عنقه. فقال له العصفور وهو يئن ألماً: إذا كان هذا خبزاً للضيوف ليت الإله الذي تصلي له لا يستجيب لك.
ـ كنت لي يا بني كالكلب الذي دخل إلى فرن الخزافي ليتدفأ وبعد أن دفأ نهض لينبح على الخزافين.
ـ يا يني إن اليد التي لا تجتهد تقطع. والعين التي لا تبصر يقتلعها الفرسان فأي عمل صالح عملت معي يا بني لكي أذكرك فترتاح فيك نفسي.
ـ أنا يا بني دهنتك بالطيوب المعطرة، وأما أنت فعفرت بالتراب جسمي.
ـ كنت لي يا بني كالخلد الخارج من الأرض لاستقبال الشمس، لأنه لا عينان له فرآه النسر وهاجمه واختطفه.
ـ يا بني أنا رفعتك كالبرج وكنت أقول إذا هاجمني عدوي اصعد وأتحصن فيك وأنت إذ رأيت عدوي انحنيت له.
عندها طلب نادان الرحمة والمغفرة من أحيقار ووعده بأنه سوف يكون خادماً له. فأجابه أحيقار:
ـ كنت لي يا بني كالنخلة المغروسة على النهر، كانت تطرح كل أثمارها في النهر، ولما جاء صاحبها ليقطفها قالت له: أمهلني هذه السنة فأثمر خرنوباً. فقال لها: إنك لم تنجحي بإعطاء ثمرك فكيف بإعطاء ما ليس لك؟.
ـ يا بني أدخلوا الذئب المدرسة فقال له المعلم: ألف باء. قال الذئب: الجدي الحمل.
ـ يا بني قد وضعوا رأس حمار في طبق على المائدة فتدحرج وسقط على التراب فقالوا إنه غضب على نفسه لأنه لا يستحق الكرامة.
ـ إنك يا بني أيدت المثل القائل إن الذي ولدته ادعه ابنك والذي اشتريته سمه عبدك. يا بني إن الله الذي أبقاني حياً سيقضي بيننا. وفي تلك الأثناء كان نادان يسمع ويتألم وهو نادم على كل ما اقترفه إلى أن انتفخ كالزق ومات.
ـ فمن يصنع خيراً يلق خيراً، ومن حفر حفرة لأخيه يملأها بقامته.
وبذلك تنتهي قصة أحيقار حكيم آشور ونينوى بعد أن ركزت على العقاب العادل للخائن الناكر الجميل والخاتمة الطيبة والإكرام والإجلال للعالم المخلص الحكيم. بعد أن أشبعتنا بالحكمة البالغة النافعة. هذه الحكمة التي خُلدت منذ أجيال سحيقة حتى هذه اللحظة وستخلّد إلى الأجيال القادمة. ولسنا نتعجب أن تنتج العقلية البشرية في تلك العصور القديمة حكمة هذا مبلغ قدرها أو تعطينا معرفة هذا ألق نبراسها لأن العقل البشري الخلاق هو هو، والنفسية الإنسانية لم تعدم حكمة ومعرفة منذ وجودها ولا سيما عند هذا الشعب الحضاري المتميز الذي وضع الأسس المتينة لكل علم نفس وفلسفة وحكمة. فحكمة أحيقار هذه هي تلك الحكمة التي مهدت طريق الحياة المثلى للأجيال القادمة وتعاليمه هذه هي نفسها تعاليمنا التي تربينا عليها وسنربي أولادنا، فطوبى لتلك الحكمة التي لا يحدد لها زمان معين ولا مكان معين.
راميا